وإذن قَابلتُ أليس كوبر في حفلةِ زفاف عمرو سيزر، كانت الحفلة على سطوح إحدى عمارات وسط البلد في شَارعِ عمَاد الدين. لم أتعرف عليه في البداية، لكن لفت نظري ملابسه ومكياج وجهه، سألتُ عمرو: “مين الوحش؟”، فخبط جبهته بيده وقد نسى اسمه كالعادة، ثم ذهب إلى عروسه وسألها: “مين دا؟”، لكنها اكتفت بالضحك وقالت: “دا صاحبك أنت يا حبيبي”.
إذن ذهبتُ للرجل وصافحته، عرفته بنفسي، فقال بصوت مبحوح: “كوبر.. أليس كوبر”. اندهشتُ لوجوده هنا، لكن لم أظهر أي علامة من علامات الاستغراب، أعطيته علبة بيرة صفيح ففتحها بأظفاره الطويلة، ثم تجرعها كَاملة على مرتين.
كانت الموسيقي جيدة، لكنني بسهولة أمكنني الشعور أن كوبر لم يكن مستريحًا لهذا النوع من الموسيقي الهادئة ذات الطَابع الرومانسي والمغزى الأخلاقي السامي، عمومًا لم أكن مجنونًا يومًا بموسيقى كوبر، أعني أنا أقدر الرجل حقًا وأعرف قيمته، وتأثيره الكبير على عشرات الموسيقيين خصوصًا في مجال الميتال والهيفي ميتال وما تفرع عنهما، وملايين البشر من جمهوره، لكنني لم أكن واحدًا منهم للأسف، وهذا بالطبع لا يعني بالضرورة أنني أكنّ أي موقف عدائي أو سلبي اتجاه الرجل. فعلى العكس ثَرثرتُ معه في اللا شيء تقريبًا لمدة نصف ساعة، بعدها كان لابد أن استأذن في الانصراف حتى ألحق موعدًا آخر، صَافحته وأخبرته أنني سأغادر، فقال إن هذا جيد جدًا لأنه أيضًا يريد أن يغَادر.
إذن غادرنا معًا، وبينما نحن على السلم عرض عليّ الذهاب معه إلى مسكنه، وشد سطرين. سألته أين يسكن لأفاجأ أنه يسكن في الطابق الثاني من نفس البناية. كان مسكنه عبارة عن حجرة بحمام فوق سطوح إحدى المباني القصيرة، لكن الدخول إليها يتم من نفس بناية عمرو.
هكذا إذن أخذتُ سطرين من الكوكايين، الذي وصفه بأنه نوع رديء، مثل كل شيء في مصر، لهذا سألته ما الذي يجعله يقيم في القاهرة إذا كان كل شيء سيئًا، فقال إنه يباشر استثماراته وأعماله في القاهرة، سألني إذا كنتُ أعرف محل متعهد الجنازات المسيحي الموجود في ميدان رمسيس بجوار جامع الفتح، فجاوبته بالنفي، ليخبرني عند هذه النقطة أنه صاحب أكبر سلسلة من محلات بيع التوابيت ومتعهدي الجنازات المسيحية. لديه غابات كاملة في أمريكا اللاتينية يستخدم أخشابها في صنع توابيت خشبية لكل الطبقات وكل المستويات في مصر ذات السبع طبقات وأستك.
إذ لاحظ كوبر زيادة أعداد المواليد المسيحيين في مصر، وهو ما يعني فرصة مستقبلية للتوسع، لذلك يهدف من خلال زيارته الحالية للقاهرة إلى السيطرة على سوق الجنازات المسيحية ليضمن احتكاره للسوق في المستقبل، من خلال القضاء على كل المحلات الصغيرة، خصوصًا في شبرا والمنيا.
* * *
بعد عدة أيام صادفتُ سعيد أبو بكر في مقهى الندوة الثقافية بميدان باب اللوق. المقهى من مقاهي سعيد المفضلة، ربما لأنه يقدم معسل التنباك، الذي أخذ سعيد يشربه بجواري وأنا أتابع ذات الرداء الأحمر في الصيدلية المقابلة للمقهى. تحدثنا قليلاً ولفت نظري موبايل جديد يحمله، أخذتُ ألعب فيه منبهرًا. كان الجهاز أكثر من موبايل، بل تقريبًا جهاز كمبيوتر بحجم كف اليد، وبسخرية سألته: “من أين لك هذا يا بطة؟!” من ملامح وجهه بدا أنه محشش تحشيشة عظيمة، لكنه هزّ رأسه والمبسم في فمه، ثم التفت نحوي قائلاً: “وحياتك بلاش تفكرني، دا أنا امبارح كان واحد من أجمد أيام حياتي.. ثروة وحياتك يا أخويا هبطت عليا من السما”.
نقلتُ بصري إلى فتاة ممتلئة دخلت المقهى، وجلست عن يميني. ثم عدتُ بعيني له وسألته: “ازاى يعني؟”، فجاوب قائلًا: “واحد خواجة قابلته امبارح في صالة مدام دولت، لعبنا بولة، والثانية والثالثة، الرجل كل ما يخسر، يسخن ويرفع، يسخن ويرفع، ومحسوبك حظه كان فوق.. فوق.. فوق النجوم. قشّطته تماما، وآخر حاجة لعبنا عليها الموبايل دا، والنهاردا هنكمل الليلة”.
توقف للحظة وأخذ يدور بعينيه في المقهى محدثًا نفسه: “أنا عايز حجر تاني”، ثم أكمل قائلًا: “آخر القعدة امبارح، أقسم انه بكرة مستعد يلاعبني على روحه مقابل روحي، يعنى الليلة دي، الخسران لازم يروح عريان”.
حوّلتُ نظري من الفتاة الممتلئة، التي بدأت في تدخين سيجارة كليوباترا سوبر، إلى ذات الرداء الأحمر، التي كانت تلعب في شعرها، ورددتُ عليه: “طيب وافرض خسرت يا بطة”. نفث الدخان إلى أعلى، وقال كأنه يتحدث مع الله: “يا سيدي ما ياما خسرنا”.
* * *
غاب سعيد أبو بكر لفترة، حاولتُ الاتصال به أكثر من مرة لكن تليفونه كان مغلقًا، سألتُ عنه سراج منير، فقال إنه غالبًا سَافر للرَاحة والاستجمام في أحد المنتجعات الصحية في التشيك أو السويد. نعم كان هذا غريبًا لأنني لم أعرف سعيد غنيًا إلى هذا الحد.
في هذه الفترة، اشتد المرض على زوزو وزرتها مع استفان بعدما بذلت أنا ونور الدين مجهودًا كبيرًا في إقناعه. نصب توفيق على نجاح الموجي في تربة حشيش بألف جنيه، وتدخلتُ لتخليص الموضوع، ومررتُ في مغامرة لطيفة قد أقصها عليكم يومًا ما، وشعرتُ بانجذاب اتجاه فتاة مصرية تتمني أن تكون يابانية، لكنها للأسف كانت مرتبطة بجاك دانيل، نقلتُ محل إقامتي. شربتُ أفيونًا لأول مرة في حياتي مع ميمي، ثم ظهر اسم سعيد أبو بكر على موبايلي، فتحت الخط وأنا أهتف: “يا ابن الكلب..أنت فين يا جدع أنت؟”.
سمعتُ ضحكته على الطرف الآخر، وكنتُ جالسًا في أحد المقاهي المقابلة للجامعة الأمريكية، وبعد خمس دقائق مرّ عليّ وهو يقود سيارة كاديلاك مكشوفة ذات موديل قديم ولون أخضر، مبهرة كانت. ما أن جلستُ بجواره وبعد السلامات والتحيات والإخباريات سألتُه من أين لك هذا، فلوى بوزه وقال لي: “أصبر معايا للآخر”.
إذن اتجهنا إلى شارع رمسيس، وقبل جامع الفتح ركنَا السيارة، ونزلنا لندخل محل متعهد جنازات مسيحي، كان محلًا ضيقًا يمتلئ بالتوابيت الخشبية من كل الأنواع والمقاسات.
سَلّم سعيد على الولد الجالس في المحل، الذي قام من على المكتب، واستأذن في الانصراف، وأنزل باب المحل خلفه، ليمد سعيد يده إلى علبة سجائره، ويخرج جوينت حشيش معتبرًا. كنتُ مذهولا تمامًا من الجو بأكمله ومن ملابس سعيد وبدلته الفخمة، التي منحته مظهرًا مختلفًا، ومندهشًا خاطبته : “من أين لك كل هذا يا ابن الكلب؟!”.
تناول من على المكتب علبة ذهبية مطعمة بحجارة قدرتُ أنها ماس، ثم فتح العلبة وأخرج مجموعة من أوراق الكوتشينة، وبحركة سحرية فردها أمام وجهي، وابتسم وحواجبه مرفوعة لأعلى.
2008