خضر العمائم نادوه فأجاب

نشرت في 2014 بعد رحيله

التقيت بساقي الأرواح في مناسبات عديدة. حفلة بحديقة المركز الثقافي الفرنسي حضورها من الدبلوماسيين والأجانب ونخبة فرانكفونية. مولد السيد البدوى وسط أمواج لا نهائية من البشر والدراويش. بجوار السيدة زينب وسط الضحكات الرائقة والأنفاس العالية وستى الكريمة بتسقي بيدها. مع “بارمان” من الشمال الأوروبي في حفلة بساقية الصاوى وسط محبين للساقي من كل الطبقات والثقافات.

كل القلوب إلى الحبيب تميل. والقلب شرط المحبة، إذا لم تمتلك القلب سترى الكأس خاوية. بينما هو يناديك معه في طريق لسبيل الست الكريمة، بدون شوائب ولا عكارة يقدم الماء هناك من نبع فياض، يوقد من شجرة من أسيوط منبعها الحواتكة بمركز منفلوط، سيقولها الساقي لك وهو يقدم نفسه. وبخبرة من تعود على مثل هذه اللقاءات والمناسبات، سيجلس صامتاً أمام الكاميرا، وفي يده كوب الشاي. يأخذ رشفة، ثم يظل نظره معلقا في اتجاه الكوب ثم للكاميرا ولك مرة ثانية. حينما يطلب منه “البرديسور/ المنتج” الأمريكي الذي يعد فيلما تسجيلياً، سينطق الجملة بأليه “اتولدت سنة 1932 الحواتكة مركز منفلوط”. وحتى هذا الأمريكي المتحمس بلا داعى سيسقيه. سيرفض سجائرك، وسيخرج علبة السجائر السوبر الكليبوترا مدعوكة، والنفس الأول مثل الجمرة، تشتعل وتزهر مع كل نفس من الروح.

شجرة التونى تضم جيلاً كاملاً من منشدين الصعيد على مذهبة ومن جوقته خرجوا، لكنهم ليسوا تلامذة، وليس لطريقة التونى من تلامذة. مهما صغروا أو كبروا هم رفاقه وأحبائه. هناك خليط كثيف المكونات فيما يقدمه ساقي الأرواح. مقامات مدهوسة ومخلوطة في ارتجال آلات التخت التي تسبح في حرية كما النجوم للجاهل، لكنها مربوطة بناموس عامود خيمته هو الساقي. يمد يده فيترك الكمان متقدماً ليقود، يقاطعة من مقام آخر، ويؤشر للرق إشارة خفيفة فيباغت الاثنان. يأتي المزيج كوكتيل خفيف المذاق والثقل نافذ الضوء والراحة. ولماذا الجدية، دع نفسك تلقائيا، الطاقة التي يمتلكها ساقي الأرواح قادرة على ضبط الإيقاع، وعلى إغراق الحضور مهما كونوا من فيضها، حتى لو غاب عنهم معانى الكلمات.

“سَكِرتُ وتُهتُ عنْ حَسي ونَفْسي

و مِلتُ برَشفِ راحَيَّ عن زَمَانِي

تُنادي كُلُ جَارحَةٍ وعُضوٍ

وأزهارٌ و أنْوارُ الجِنانِ

وأفْلاكُ تَدورُ على إنتِظامٍ

وأنْهارٌ بها حُلو الغَوانِي

جَمالٌ لا يُشابِهه جَمالْ”

لنفترض غياب المعنى، انظر مع وبين الكلام ما تسمع، همهمة، أنين، تأوهات، تأودات، تمطق، قهقهة، بحيح، لعلعة، نزيب، هديل، شقشقة، زفير. اسمع الضحكة الفاجرة في دلعها قبل كلمة الغوانى. من مثل هذه التفاصيل، من صوت “سبحته” على الكأس يأتي المزيج. هذا المدام للأحبة.

ليست الأصوات ولا الارتجالات المفاجئة في رعونتها، ليست أيضاً الرسوخ الكلاسيكى لفرضيات المقام العربي، ولا الانفتاح على عوالم موسيقية آخرى. بل اختيارات الساقي لكل كلمة وبيت وقصيدة. من الحلاج لابن الفارض، إلي المزج والارتجال الحر للكلمات. تحكى الأسطورة أن التونى كان يحيي حفلات لأكثر من ثلاث وأربع ساعات، ينتقل بعدها لمكان آخر ليحيا ليلة آخرى تمتد لساعات. وفي كل الحالتين لا يكرر بيتاً واحداً. لا ينضب معين الساقي.

في المرة الأولى التي شاهدت فيها السلطان، قدرت عمره بالتسعين. وكان وقتها في منتصف السبعينات. شاهدت على مدار السنوات نشاطه حماسة وكيف تفيض وتشيع طاقته أينما حضر أو انشد. ودون أي انتباه لاعتبارات البيولوجيا أو الجسد لم تخطر ببالى فكرة أن يموت التونى. عرفته من باب آخر، أتانى من طريق مفتوح وواصل. غلقت أبواب الجسد ربما، لكن الطريق موصول.

 

اترك رد

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.

%d bloggers like this: