نشرت في 2015
ملك يحلم أن يكون فراشة، وفراشة تحلم أن تكون ملك. يتكرر الأمر هكذا في تبادل لا نهائي بلا فرار من الحلمين. يخلق هذا التكرار إيقاع موسيقي “لوب” مستقر، يشيد ببطء عالماً باطنياً من حلمين في منتهى البساطة.
حينما يلتقي شخصان في مناسبة اجتماعية للمرة الأولي عادة تكون مواضيع الحديث لها علاقة بالطقس، من تعرف في المكان، ماذا تفعل، ماذا تشرب. المرة الأولي التي قابلت فيها آية كان موضوع الحديث كونديرا وماجريت وأفضل مكان في القاهرة لشراء قميص زهري اللون. كان هذا في وسط سأم القاهرة 2008. وكانت آية تدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة، أخبرتنى أنها تغني قليلاً مع أصدقاء لها ثم اختفت.
سأسمع عن آية بعد ذلك تغني توزيعات مضطربة كأنها تدريبات دراسية لعدد من الأغاني معظمها لتوم وايتس. ستختفي آية، تُحرق مباني وأقسام شرطة وتسقط هيبة دولة،يحيي العسكر الشعب، ثم يحيي العسكر الإخوان، ثم يحيا الشعب العسكر. يخبو ويشتعل صراع ودورة تاريخ تعبر. وآية وسط ذلك في غرفة تمسك الجيتار وأمام كاميرا وصوت الكمبيوتر تغنى عن نجوم وشجر وزمن ساكن وصحوة بلا صباح.
ستتحرك آية في معظم الحفلات بذات الجيتار تغني في حفلات بأماكن تختارها بعناية. صوت وطبيعة تجربة آية في تلك الفترة كان يتناسب في أفضل حالاته مع أماكن كقاعة “استديو مائة نسخة” بوسط البلد أو “مكان” والاثنان لا يتسع الفضاء فيهما لأكثر من مائة شخص. في مكان حينما كانت تغني آية فهي تجلس في منتصف الغرفة لا يفصلها عن الجمهور مسافة ذراع. وفقط صوتها والجيتار. ليصعد لوب الأحلام بتوالي الأغاني والمقطوعات. تستعير آية معانى متناقضة وقاموسها لا يخلو من الفصحي ودائما هناك كائنات آخري تتحرك معنا في هذا العالم أشباح لشخصيات غائبة وأشخاص تتحاور برسائل مبتورة كأن هناك شيء موجع وساخر غائب تحت هذا اللوب الموسيقي الرتيب المميز لألحان آية، والذي يتحول في الأداء الحي بأماكن ليست ذات طبيعة مسرحية إلي سحابة كأن آية تدخلنا إلي عالمها الذي بنته لوحدها وبفرديتها المميزة.
لا يمكن أن تصحب صوت آية معك بعد الحفلة، ولن تجده بسهولة في تسجيلات علي الانترنت. ولا تهتم كثيراً بتوثيق أعمالها، بل وكثيرا ما تحذف من أرشيفها. دوائر جمهورها الصغيرة والتي تعلق دائماً كيف “أنها دماغ لوحدها” تتداول أحياناً تسجيلات لها ترفعها من حفلاتها تعانى من رداءة الصوت.
ستخرج آية من قلعتها في حالات قليلة في البداية لكن على ما يبدو يتغير هذا حالياً. واحدة من المرات ستكون حفلة “كومبو” والتي أقيمت في مسرح روابط عام 2012، بالمشاركة مع يسرا الهواري ومى وليد وإطلالة خاصة لبيري معتز على “الباص جيتار”. وقتها كان الحفل بمثابة إعلان مدوى عن وجود موسيقي جديدة وفتيات يلعبن ويجربن بآلات موسيقية فردية دون فرق أو أوركسترا تقديم حكايات وحالات موضوعه الأساسي هو الذات وخيبات العلاقات وطرق المقاومة المختلفة لإيجاد طرق ومسارات للحياة في مدينة قاحلة كالقاهرة.
بنات جيل آية من الموسيقيات والمغنيات، سعين إلي تطوير أنفسهم بسرعة، وصنعناً شعبية معقولة تنمو ببطء لكن بثبات. توسعن للعمل مع موسيقيين من بلدان وتيارات مختلفة أنشأن فرق فنية وأخذن قرار بإكمال التجربة إلي النهاية كمغنيات. لكن آية بعد كل حفلة كانت تضع الجيتار في حقيبتها وتجري قبل أن تقترب الساعة من الحادية عشر.
-رايحة فين يا آية؟
بصوت خافت مختلف عن صوتها أثناء الغناء ستكون الإجابة غالباً “بكرة مدرسة لازم أروح”. في الصباح تستيقظ آية في السادسة صباحاً لتذهب للعمل كمدرسة للأطفال، وفي فترة آخري بينما كان زميلاتها يسافرن حول العالم لإحياء الحفلات واستكشاف العالم والموسيقي الآخري، كانت آية تترك الموسيقي وتذهب لتتعلم لسنوات في مدرسة الرقص المعاصرة التي أسستها كريمة منصور.
تتوالي صور الأشباح عند البحث عن آية، من العازفة والمغنية، لأية المدرسة، لآية الراقصة، لآية الشجرة، ثم آية على الفيسبوك والشبكات الاجتماعية التي تصرخ في جمهورها “أنا مش مغنية ومش بغني”. ولنفي أي محاولة للتصنيف تشاركنا من داخل قلعتها بفيديوهات تقوم فيها بأشياء بسيطة ككيفية غسل الأسنان بالفرشاة.
في البدايات حينما كنت أحضر لآية تغني لتوم وايتس أو لسيد درويش في حالات نادرة، ورغم أي ملاحظات أو هنات لكن كان من الواضح مساحة الصوت وقوتها الغريبة التي تختزنها آية، وفي التسجيلات والأعمال الأولي كان هناك مشكلة في السيطرة على هذه القوة والمساحات العريضة لكنها دربت هذا الصوت، مع الجيتار تحولت هذه القوة إلي جزء من “اللوب” الدائري لايقاع الحلمين وربما الأحلام المتعددة لشبح آية.
تتهرب آية من التصنيف ومن حصار المغنية أو الفنانة، لا تسعي للجمهور وخجولة في التجارب التي تختارها، تجلس داخل قلعتها وتفتحها لمن ترغب وتسمح له بالدخول. مؤخراً فقط بدأت في الانسجام أكثر فأكثر مع حالة آية المغنية. في سيناء في شهر سبتمبر الماضي مع فريق “كلاب المطر/ RainDogs” وعلى شاطئ المعجنة بينما الكلاب تلعب كانت آية طوال الحفلة تكرر آهاتها وجمل وكلمات وقصيرة كأنما الصوت تحول لآلة موسيقية تحمل نجوم سماء سيناء.
هذا الشتاء تخرج آية كثيراً لتحيي حفلات في مسارح وأماكن متعددة والجيتار الذي كانت تحمله أصبح يصحبه الآن مولف موسيقي إلكيترونية، حيث تستخدم النبضات والدفقات في أغانيها الجديدة. ليندمج الصوت مع الضوضاء كأنها تتحول لشبح يلوح لنا من عالم آخر.