تغيرت منطقة وسط القاهرة في العام الأخير بشكل جذري حيث اختفي كل ما له علاقة بالتاريخ القريب للثورة وميدان التحرير والآن يختفي كل ما له علاقة بالمكان كمركز للحركة الثقافية المصرية.
حزمة من مشروعات صيانة المبانى التاريخية القديمة والشوارع في تحالف شمل القطاع الخاص وعلى رأسه شركة الاسماعيلية للاستثمار العقاري والتى تقدم نفسها بطموح لإعادة المجد المدينة للقاهرة الخديوية، وبرامج التنمية المدعومة من الاتحاد الأوروبي، وأخيراً الحكومة المصرية التى وجدت في كل ما سبق فرصة لطرد الشباب الذي تحول وسط البلد لمنطقته الحيوية في الأعوام الأخيرة. ذات الشباب الذي كان يجلس على المقاهي للراحة بين المظاهرات والاعتصامات في فترة الحراك الذي فجره ثورة 25 يناير وما تلاها.
أغلقت الحكومة المقاهي بدعاوى بيروقراطية مختلفة وحينما كانت تنفذ منهم الدعاوى البيروقراطية فبعض المقاهي الشبابية تلك أغلقها المسئول المحلى لحى عابدين بسبب أنها مقاهى للملحدين. حاولت تلك المقاهي تقدم مفهوم جديد للمقهى لا مكان للجلوس واحتساء المشروبات فقط بل لبيع الكتاب أيضاً ولاقامة المعارض الفنية وأحيانا عروض موسيقية بسيطة. باختصار سعت مقاهى وسط البلد لتقديم مفهوم جديد للمقهى كمكان ثقافي معاصر، لكن هذا ما لم تفهمه الحكومة، واعتبرتهم ملحدين.
الآن تسير في شوارع وسط البلد، وتري كيف تتحول لمناطق تجارية تحتل محلاتها أفخم وأغلى الماركات العالمية، والمبانى تم إعادة طلائها باللون الأصفر وإجبار كل المحلات على وضع صناديق للقمامة، ومنع وقوف السيارات في وسط المدينة لتحويلها كما أعلن رئيس الوزراء السابق إلي متحف مفتوح. لكن لمن هذا المتحف؟
انظر حولك في الشوارع الخالية، على الأرجح فالخطة تحويل وسط البلد لمتحف مفتوح للأشباح. يتم تفريغ المنطقة من شبابها ومن حيويتها ومداهمة الأماكن والمراكز الثقافية التى صنعت سمعة وسط البلد كمركز ثقافي مصري وإقليمى. خلال الأشهر الماضية داهمت قوات الأمن مركز الصورة المعاصرة، أحد المراكز الثقافية الفنية المعنية بثقافة الصورة وبتعليم الفوتوغرافيا وإقامة المعارض الفنية. بعدها الأسبوع الماضي داهمت قوات الأمن “جاليري التاون هاوس” البيت الكبير للمؤسسات الثقافية والفنية المستقلة.
بدأ جاليري التاون هاوس نشاطه في منتصف التسعينات كمساحة مخصصة للفن المعاصر، وقتها كانت كل مساحات وصالات العرض تحت سيطرة الحكومة أو جاليرهات تجارية من النوع الذي يبيع اللوحات بجوار قطع الأثاث. جاء التاون هاوس كمعزوفة خارج السياق، مؤسسة غير ربحية، تسعى لتقديم الفنون المعاصر بداية بالفيديو آرت، الأعمال المركبة، والمعارض الفنية التى لا تجد لها مكاناً في السياق الحكومي. وخلال عشرين عاماً قدم التاون هاوس عشرات الفنانين الذي يحتلون قوائم أبرز الفنانين في منطقة الشرق الأوسط، كما توسع الجاليري لتصبح هناك مكتبة ومسرح وورش لأطفال المنطقة وعشرات البرامج التنموية والثقافية التى يديرها التاون هاوس. كانت تجربة التاون هاوس الرائدة هى ما شجع عشرات المؤسسات والمراكز الثقافية على العمل في مصر وهو ما صنع المشهد الثقافي البديل بكل حيويته التى عرفتها وسط البلد في العقد الأخير. بل أن الكثير من المراكز الثقافية الكبيرة والمؤثرة الآن بدأت كمشاريع صغيرة داخل “التاون هاوس” ثم أصبحت مؤسسات مستقلة.
الآن تسير في محيط منطقة التاون هاوس المعروف بمنطقة قهوة التكعيبة، لا تجد سوى الأشباح، المسرح مغلق بالشمع الأحمر، والجاليري الذي أصبح مبنى من ثلاث أدوار مغلق، حتى المقهى الذي كان محطة أساسية في زيارة أى فنان أو مثقف للقاهرة أصبح خاوياً. على هذا المقهى قابلت بمحض الصدفة الفيلسوف الايطالي بفيو فقط جاء للقاهرة في زيارة قصيرة، وحسبما نصحه الجميع فكان يجب أن يزور قلب الفن المعاصر والحركة الثقافية في مصر. هذا ما قاله لى وقت. الآن تتمشى في ذلك المربع الذي كان يضج بالحياة، فلا تقابل سوى الكلاب الحزينة ومخبر يتمشى لحراسة الأشباح.
هذه إذن هى وسط البلد الجديدة، المتحف المفتوح للأشباح. وثمرة تعاون الرأسمالية الجديدة، والدولة الأمنية ومشاريع الاتحاد الأوروبي التنموية. نعم اختفي الباعة الجائلون وكذلك الزبالة والنفايات من وسط البلد. لكن كذلك اختفي الناس، والشباب والفن، والمقاهى أغلقت والبارات أصبحت تغلق أبوابها الثانية عشر والحياة تنسحب من قلب القاهرة التى قيل أنها لا تنام. وبالنسبة لعقل الدولة الأمنية المصرية فهذا هو قمة النجاح. لا أحد يعكر صفو أمانهم المتخيل، لا مظاهرات لا تجمعات من أجل ندوة أدبية أو معرض فنى. على الحياة أن تتوقف بأمر الجنرال. وعلى الفن أن يقدم فقط في سياقات مهرجانات الاحتفال بشق ترعة أو الأعياد الوطنية لتسلية الرئيس وأصدقائه.
نصل للحظة بعد تأميم المجال العام والسيطرة على الإعلام بسجن الصحفيين أو بعقد الصفحات مع رجال الأعمال المالكين للمنصات الاعلامية. لا تصبح المشكلة أن النظام يطارد المعارضين بل يطارد جميع مظاهر الحياة، الثقافة ممنوعة وكذلك الفن. ويمارسون هذا التسلط والرقابة بطرق جديدة. ففي حالة جاليري التاون هاوس ورغم وجود ممثلين عن الأمن الوطنى أثناء المداهمة، لكن الداخلية بررت الاغلاق بعدم وجود مخرج للطوارئ للمسرح، مثلما كان الهجوم على مركز الصورة المعاصرة بسبب وجود نسخة مقرصنة من برنامج الفوتوشوب”. تُسخر الدولة الأمنية سلاح البيروقراطية لمارسة الرقابة لكى تحرمنا حتى من القدرة على الاعتراض على هذه الانتهاكات لتحول المسألة لخطأ بيروقراطى، بالرغم من أن كل هذا المخالفات حتى لو سلمنا بوجودها فلا يستدعي ارتكابها غلق المكان بالشمع الأحمر، لكنهم بالبيرقرواطية يجردوننا حتى من الآه، بينم يتم خنق وقتل قلب المدينة.