إفراط في التأويل بخصوص #أرض_الخوف

نشرت هذه التدوينة في 2012 على أرشيف مدونة وسع خيالك القديم، نعيد نشرها هنا رغم تغيير الأوضاع والمنطلقات، لكن ضياع يحيي أبو دبور لا يزال قائم

من بين كل أفلام داود عبد السيد ينفتح فيلم أرض الخوف على عدد لا نهائي من الاحتمالات والتأويلات الذاتية والعامة والتاريخية والرمزية.

وقد شغف الكثيرون وأنا واحد منها بالحالة الملحمية للفيلم وقدرته على كشف الكثير من المناطق المظلمة سواء على مستوى المحيط العام أو المحيط الخاص. ومن خلال محادثات متفرقة مع الصديق حمادة الشهير بمحمد نعيم تمكنت من الوقوف على بعض العتبات لاستكشاف أشياء.

“أرض الخوف” الذي يمكن تناوله بداية من كونه حكاية رمزية لجيل الستينات جيل داود عبد السيد الذي استيقظ في عام 1999 سنة  إنتاج الفيلم ليجد كل حياته وجهده التنويري محصوراً بين الجهل واستبداد وفساد السلطة والبودرة اللى نزلت السوق. في الوقت ذاته يمكن استقبال الفيلم كمحاكاة للتجربة الإنسانية بشكلها الأعم حيث رحلة الإنسان مع الأديان وتجار المخدرات الذي يحملون أسماء الأنبياء أو دلائل كحالة “هدهد” وذلك التقارب مع سليمان الحكيم، ورجب الشهر الإسلامى، ووحش البودرة المدعوم من نظام من الأعلى وسيأكل السوق كله.

مؤخراً ازداد شغفي بالفيلم خصوصاً بعد مشاهدة نسخة نادرة منه عرضت على قناة النهار التلفزيونية وتقريبا هى أفضل نسخة على مستوى جودة الصورة والألوان. وأثناء المشى ليلاً في شوارع أكتوبر الخالية بدا لى في ضوء شغفي بالفيلم أن هناك أشياء وإشارات يمكن عبرها فهم صيرورة الحركة تبرير ما حدث وإدراك ما سوف يأتى.

تجارة المخدرات هذه المرة ليست المخدرات، لكنها معادل رمزى لشبكات الحكم والإدارة ذات الفاعلية والتأثير على إدارة وحكم البلاد القديمة ورقعتها الجغرافيا المديدة مصر.

-قبل أن يأكل “آدم” من التفاحة يخبره الرجل الغامض: “خلى بالك مش هتبقي محمى من الشرطة بأى شكل من الأشكال”. يمد آدم يده للتفاحة يكمل الرجل الغامض: “المشكلة الحقيقية يا يحيي أنك مش هتمثل الفساد. دا مش دور على المسرح. دى حياة أنت هتبقي فاسد فعلا. هتبقي تاجر مخدرات فعلا. بس في أعمق مكان في عقلك لازم في النهاية تعرف أنك ضابط شرطة.. هتخون وتسرق وتسمم المجتمع وهيطاردك البوليس”. ومثل شباب الثورة تم ارتكاب جميع الخطايا لكن جميعها تم تبريرها وفي أعمق أعماقهم كانت الثورة وخدمتها واستمرارها هى النواة الثابتة. بعضهم سيخوض الانتخابات وسيصل إلى أعلى الدرجات في سلم تجارة المخدرات وتجارة السلطة وما شابها وقاربها من درجات.

-على طرف آخر يقول المعلم هدهد: “قتل النفس أصعب شئ لكن أوقات لازم نقتل. ربنا خلق عبيدة كل واحد بهدف، خلقنا تجار مخدرات عشان نبسط الناس، جعلنا اغنيا بس المال دا كلة مال ربنا مش مالنا .. جعلنا مسئولين عنة .. لكن مفيش ورد من غير شوك ولا جنة من غير نار … ربنا عمل علينا واجبات و امور لازم نشيلها .. منها اننا احيانا لازم نقتل“.

وعلى حافة الجبل المطل على الوادى يجلس المشير/ المعلم هدهد. تلخص الفقرة السابقة جوهر إيمانه كرجل عسكري خاض الحروب كلها الأرقام شهداء يقام لهم جنازة عسكرية ومعاش شهيد. والجميع أولاده. ضابط الشرطة يتم تكريمه والشهيد الذي قتله ضابط الشرطة يتم تكريمه. الجميع أولاده وأبناءه ومسئولين وتحت رعاية قواته المسلحة.

يطلب آدم من المعلم “سعده المنزلاوى” اثنين مليون جنيه بضاعة لكى يتحول إلى المعلم “أبو دبورة” ومن عجائب القدر وتدابير تصاريفه أن يحصل شباب الثورة على أكبر عدد من الأصوات في الدقهلية ونواحى المنزلة لكى يصبح آدم طرف وجزء أساسي من أطراف المعادلة. وفي عربية مرسيدس تتجه من مصر الجديدة نحو وسط البلد مروراً بالعباسية يتم عقد اجتماع القوى الوطنية بحضور “المعلم رجب”.

قواعد اللعبة تتغير يكتب آدم في تقريره: “الملاحظ أن هناك تجار جدد تم رصدهم والتبليغ عنهم في تقارير سابقة لا ينطبق عليهم الشكل التقليدى لتاجر ومهرب المخدرات بل أن القادمين الجدد يأتون من أنشطة آخري مشروعة ويدخلون المجال من أعلى السلم وليس من أسفله. وهو ما يحدث لأول مرة. أننى أنبه لتغير أساسى يحدث في السوق”.

أنها ما يعرف إعلاميا بثورة 25 يناير.

تنتهى صلاحية المخدرات القديمة. وتظهر وجوه جديدة.

في هيلتون رمسيس يظهر المعلم “رجب” في اجتماع القوى الوطنية ويعرض عليهم الجديد في علوم الإدارة وحكم البلاد والسياسية. “البودرة/ مشروع النهضة/ تطبيق الشريعة/ الإسلام السياسي”.

البودرة نزلت السوق يا معلمين.

ينقسم المعلمين في موقفهم من البودرة ومن مشروع الإسلام السياسي. المعلم إبراهيم الحوت سيد المعلمين وخدامهم هو هنا الفيض الشعبي الواسع، النقاط البيضاء المتناثرة التى تشكل في حيز كبير منها النمل الأبيض السلفي. ومثل حزب النور يسعى في الخير دائماً. ومن الطبيعى أن ينحاز المعلم إبراهيم الحوت إلى مشروع النهضة مع تمثيل الرفض الظاهرى لكى لا يغضب بقية المعلمين.

آدم. شاب الثورة يستمع إلى عرض مشروع النهضة من المعلم رجب صامتاً. لا تعليق. فالإخوان فصيل وطنى شارك معنا في الثورة من 25 يناير. قادتهم نصفهم كانوا في المعتقلات والنصف الثانى يجلس مع سفاح ورئيس جهاز المخابرات.

يقول المعلم رجب أو رجب بيه أو الشيخ رجب: “عايزين نشتغل في حاجة مكسبها 500%. اللى يجربها ميقدرش ينساها. ويزيد استهلاكه يوم بعد الثانى. هى دى البضاعة الجديدة.. وهى المستقبل”.

والأرنب يا معلمين مع البودرة يعمل خمس أرانب.

أثناء عرض رجب به. يتحدث المعلم هدهد مقاطعاً. بخبرة السنين بمدى علمه بدهاليز مؤسسات الدولة العميقة وفروعها. المعلم هدهد مثل المشير بدأ صاغ مع رفاقه من الصاغات واليوزباشي في ثورة 52. صعد السلم من تحت.

كنت بوصل تربة الحشيش بشلن

صبيان المعلم هدهد من لواءات ورتب عليا والصبيان اللى تحتهم من ملازم أول لعميد لا يقلون عن مليون نفس. يرفض المعلم هدهد التعاون مع مشروع الإسلام السياسي.

فيصارحه رجب أو خيرت بيه: “من حقك يا معلم هدهد لكن احنا محتاجين صبيانك“.

 هنا يأتى التحذير النهائي من المشير هدهد: “اللى هيتعدى عليا.. هحرق روحه” والعباسية وغيرها وكل ما عبر وحدث لم يكن إلا بروفة.

لكنه المعلم هدهد بحنكة وخبرة السنين لن يقف أمام رجب. لأنه يعرف أن صبيانه محتاجين للبودرة أو على الأقل محتاجين لفلوسها. سيتمسك المعلم هدهد بموقعه كقائد عسكري للباطنية. الصورة من الخارج تظهره كمسيطر على الباطنية وما جوارها من أحياء ومؤسسات لكنه سيتغاضي ويغمض عينيه عن تغلغل البودرة في السوق واتساع نفوذ المعلم رجب.

نقطة ومن أول السطر.

*        *        *

يتناول البرادعى العشاء مع السيد موافي مدير المخابرات العامة المصرية كما يخبرنا بذلك السيد إبراهيم عيسي في واحدة من مقالاته.

لنتأمل في حالة إبراهيم عيسي للحظات. ولنتأمل أيضاً حالة صديقه القديم عبد الله كمال.

كان الاثنان زملاء في مؤسسة روز اليوسف ربطت بينهم صداقة قوية. واشترك الاثنان في كتابة كتاب لم يظهر مثيل له في الكتابة الصحفية التحليلية عن الأغنية البديلة في الثمانيات.

باختصار يمثل الاثنان زهوة الانتلجنسيا المصرية في الثمانيات. المثقفين. الأفندية. سلالة اجرى يا محمد أفندى في فيلم “الأرض”.

أما في “أرض الخوف” فموسي أفندى هو ساعى البريد المحب للتراث المصري الحقيقي والأصيل. المدافع عن دور الأزهر. وحينما يلتقي مع أبو دبورة يكون اللقاء في رحاب مسجد السلطان حسن.

في العقد الأخير، أصبح إبراهيم عيسي واحد من الأسماء الصحفية البارزة المعارضة لنظام مبارك. وعبد الله المدافعة عن هذه النظام. بعد الثورة انقلب الحال تحول عبد الله إلى واحد من الأصوات المعارضة للنظام وتحمل بسبب هذه المعارضة مغادرة مناصبه الصحفية وابتعاد الأضواء عنه. بينما العكس حدث لإبراهيم عيسي برامج، جرائد، نجومية غير محدودة ودفاع عن تماسك الدولة المصرية والتحذير من البودرة وخطرها.

كل التناقضات في موسي.

العقل والفانتازيا والروحانيات والايدلوجيات كلها موجودة في الانتلجنسيا المصرية.

والتناقضات هى جوهرها الأساسي.

تشتكى النخبة السياسية المصرية من سيولة المشهد السياسي المصري وصعوبة تحديد المواقف والقرارات الصائبة في اللحظة الراهنة. والانتلجنسيا مثل إبراهيم عيسي وعبد الله كمال وغيرهم تائهه أيضاً.. ضمير الأمة:

في رحاب جامع السلطان حسن يدور الحوار التالي:

ابو دبورة: أنا لما ابتديت المهمة/الثورة كنت قادر أشوف كل حاجة بوضوح.. كنت متأكد من اللى أنا بعمله.

بعد كدا.. ابتديت أحس أن أنا بشوف الصورة من ورا لوح إزاز. وبالتدريج ابتدت تتكون كدا طبقة زى التراب. المشكلة أن التراب ابتدا يزيد. لدرجة أن أنا مبقتش شايف أى حاجة… صورة ضبابية.

ذكريات.. اختلطت مع الأحلام مع الأوهام مع الحقايق. في الفترة الأخيرة بقيت أحلم بكوابيس. وبقيت خايف. بقيت أحس أن محكوم عليا بالوحدة.

متعلق في الهوا لا قادر أمسك حاجة في ايديا. ولا في أرض تحتى.

السؤال أنا ليه بقيت كدا.”

من غير ثوار الطبقة الوسطى يمكن أن يصرح بمثل هذا المونولوج إلا مع موسي الإعلام والنخبة.

*       *         *

على شاطئ البحر. في اجتماع بالمايوهات للمجلس العسكري بقيادة المعلم هدهد مع القوى المدنية للتباحث معهم في شأن قضية استحواذ القوى الدينية على تأسيسية الدستور. يواجه المشير هدهد  المعلم هباش أحد معلمين الدولة المدنية غالباً بقايا الحزب الوطنى:

-مانتش قادر تحكم صبيانك.. احكمهم لك أنا؟ معلمين أيه دول يا أخوى؟

معلم منزلاوى يؤكد للمعلمين مرة آخري: “يا معلمين البودرة نزلت السوق. وزباينها كترت والأشكال اللى بيوزعوها بقوا أشكال عجيبة. ايشي موظفين على طلبة جامعة”.

تدخل عليهم فتاة الثورة بعودها الرشيق في المايوه وتسألهم:

-أنتوا بجد بتشتغلوا أيه؟

*       *        *

حقائق من المستقبل.

رؤي.. إيهامات.. واستيهامات.

في لحظة تهور ذات يوم سوف يتهور آدم ويقتل المعلم رجب ومعه أيضاً إبراهيم الحوت. يخوض معركة على جبهتين مع بقايا الحزب الوطنى ومؤسسته الأمنية وضابط المباحث الذي ينصب له كميناً محكم. وفي الوقت ذاته يتهور ويقتل رجب وابراهيم الحوت.

يصرخ فيه المعلم هدهد:

-غبي… غبي غبي غبي.

لما قابلنا المعلم رجب خاطر خلانى ابص لك. لقيت شيء غريب. لقيتك بتكرهه. بتكره كره البنى آدم للموت. لكن الانسان بيكره الموت ويخاف منه لكن بيحترمه. إنما أنت بتكره رجب وبتحتقره. اندهشت.

قلت الواد دا فيه شيء غريب.

الفرق بينى وبينك أن أيامى وسنينى ونياشينى العسكرية وبدلتى الرسمية. حمول شايلها على كتفي، مقدرش اروح واشتغل معاهم. إنما أنت شاب خفيف مش شايل اللى أنا شايله.

يسأله آدم:

-أيه العلاقة بين دا وبين اللى بيحصل دلوقتى.

ويجيب هدهد:

-دول نظام مش على قد مصر. على قد العالم كله. والكبار مش احنا. دول برانا. هما اللى بيزرعوا ويحصدوا ويصدروا ويهربوا.. واحنا.. احنا اللى بنوزع. ورجب وإبراهيم هما التوكيل. لو ماتوا يجو غيرهم.

نصيحة يا أبو دبورة. سيب مصر واهرب. محدش هيرحمك. وأنا لو شفت وشك تانى هقتلك.

 

اترك رد

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.

%d bloggers like this: