الشك باليقينن -2- سلسلة هزلية غير مكتملة

في عربة ترحيلات من الصفيح، وبأيدى مكبلة بقيود حديدية صنعت في تايلند نقلت مع ثُلة من المساجين إلي قسم الشرطة في منطقة رملة البواكى. وقفنا في طابور العد والتمام لدى وصولنا القسم. أتى ضابط برتبة كبيرة نظر إلي حذائي وبدلتى التى بدت متابينة بجوار غيري من مساجين يغطيهم التراب وملابسهم عليها آثار العرق وبهدلة الحجز. تناول الضابط أورواقي ونظر فيها ثم إلي أمين الشرطة الذي يصحبنا، ثم وقع على الأوراق وبلا داعى للصراخ رفع صوته، دخلهم يلا يابنى مش عايزين دوشة وزحمة هنا.

فك “منمون” الأغلال الحديدية من يدى وقادنى نحو الزنازين. فح بجوار أذنى أثناء سيرنا هامساً، كامل بيه شكلك محترم وابن ناس والقسم عندنا عيال مجرمة ومبرشمة لكن كلمت لك الضابط يحطك في أودة عندنا للمرضي والعواجيز والموظفين والناس المحترمة زى حضرتك. فهمت إشارته وجاوبته، تسلم في عينى ياباشا تيجى الزبارة بكرة وهزبطك.

-أنا مش جاى بكرة.

أخرجت من جيبي ورقة واحدة فئة الألف جنيه هى كل ما كان معى حيث تركت محفظتى مع عطيات قبل ترحيلنا من المحكمة. قلت له، كل اللى معايا تاخد مائتين وتجيب الباقي. تناولها من يدى وهو يفتح لى باب الزنزانة ويقول، أفكها وأجى لك.

ثم أغلق باب الزنزانة خلفي. لم يأتى ثانية بالطبع.

* * *

أنا أكون في زنزانة في حى رملة البواكى، صدفة أم إشارة على الطريق. قبل أيام من المحاكمة كنت غارقاً في تاريخ هذا الحى الواقع على ضفاف النهر. باب المدينة الشمالي في قرون سابقة وموقع الميناء النهري القديم. من هنا دخلت الجيوش منتصرة، وخرجت غير آسفة. عبرت القوافل في طريقها للشرق. حملت البضائع على السفن في طريقها للشمال. دخل الرسل والسفراء القادمين من بلاد الشمال باردة متهيبين من رائحة المدينة النافذة. بركت الجمال في انتظار الأحمال والسلع. وأمام مبنى القسم كانت الأروقة المعمدة التى تحتوى البواكى تحتضن الأسواق ويصطنع التجار من أقواسها خانات ومحال تعرض فيها خيرات ثروات الشرق والغرب. أرض القسم الذي أنزل فيه سجيناً الآن من سبع قرون كانت قصر الدرك ومقر المحتسب. مجلس المحتسبين يزنون السلع، يفتشون السفن، يطلعون على هويات المسافرين ويسجنون المشتبه فيه، يمارسون دوراً قديماً يعود إلي آلاف السنة الخيالية حيث قبض أجدادهم على أخو النبي يوسف بتهمة السرقة قبل خروجه مع أخوته من ميناء بري آخر.

لا تزال البواكى الحجرية صامدة في الخارج، وأجزاء كاملة من الأروقة المعمدة تنتصب وعلى جدرانها أثار السباخ والهباب وتلوث مئات السنين. زرتها قبل أيام لمعايشة أشباح روايتى التاريخة الجديدة التى أعمل عليها. لكن فخر أسواق العالم تبدد. والبواكى صارت ورش لتصليح السيارات وأعمال النجارة البدائية وتشكيل الحديد. لكن مقر الدرك هدم أكثر من مرة حتى صار واقع حاله ودخلته اليوم سجيناً.

مع حلول المساء افترشت بطانية وسخة تفوح رائحة العطن منها. لم يكن معى في الزنزانة غير عجوزين، ولم نتبادل طوال النهار إلا كلمات بسيطة. عزم أحدهم عليا بسجارة لكن اعتذرت.

غير مدخن.

خفت أن يري موقفي تكبراً. فقبلت رشفة من الشاى الذي ادخله له السجان في زجاجة بلاستيكة انكمشت بفعل حرارة المياة داخلها.

ثلاثة أمتار في خمسة مساحة الزنزانة، جدار في الركن يحتوى على حفرة وصنبور مياة مشكلاً ما يفترض أنه حيز الحمام. باب حديد، نافذة بقضبان وشبكة حديدية صدءة، يمكن من خلالها أن تلمح قمم أشجار المستشفي العتيق المجاور للقسم. في سقف الغرفة مصباح أقرب لزاوية الحمام، وتكيف معطل محاط بقفص معدنى حتى لا تطاوله أيدى المساجين فتخربه أو تكسر أجزاء منه.

حاولت النوم دون جدوي. انتبهت لفراغ معدتى لم أكل طوال اليوم، لكن رغم ذلك لم أشعر بالجوع. انتبانى الحنق لاستسلامى واستهانتى رغم وجود عشرات الأمثلة المشابهة لحالتى لاقت ذات المصير. كيف لم أتعظ وظللت واثقاً من حصانتى الوهمية وأنى لن ألاقي ذات المصير.

هونت الأمر على نفسي بأنى على الأقل في السجن لست مقتولاً، ولا مطعوناً بسكين في الرقبة مثل الكاتب اللص المأفون الذي كانت سرقته لحياتى دافعاً لاكتشاف صوتى، وامتهان الكتابة. الكتابة التى قادتنى لهنا وابعدتنى عن حضن عطيات، في زنزانة بصحبة عجائز لا يتوقفون عن تدخين السجائر الرخيصة. لكنى ما خسرت السبيلا، ولست بنادم حتى لو لم أعرف خطيئتى.

خلعت جاكيت البدلة. طبقته ووضعته أسفل رأسي كوسادة، لكن النوم لم يأت بل حضرت أمى وحياتى معها. حنانها وعيونها الخضراء. تمنيت لو أنام لأحلم بها لكنى حتى لو غفوت أعرف أنها لن تزورنى.

غفوت فيما يشبه خلسات الكري. حينما استيقظت كان نسيم بارد منعش يدخل من النافذة مجدداً هواء الغرفة. ارتفع صوت غناء كروان. الفجر يقترب وأصوات يقظة الطيور وغنائها ورفرفة الأجنحة تزداد. تماماً كالغناء الذي كنت أسمعه صغيراً في بيتنا بجزيرة الروضة في وسط مجري النهر. كانت ماما تستيقظ في مثل هذا الوقت كأنما الكروان والعندليب وطيور الأشجار النهرية تغنى لها، وفي طريقها للوضوء إلي الحمام ترد ماما على الطيور وهى تبسمل وتسبح وتشكر، وأعرف أنها في تمتماتها تدعو لى.

تنهدت بصوت عالي مغالباً صعود الدمع لعينى. فات أوان الندم، وخفف من ألمه غناء الكروان الآخذ في التصاعد ككورال موسيقي يرد بعضه على بعضه. استدرت مستلقياً على جانبي الأيمن وبينما ادخل لأرض النوم أتانى صوت الغناء البعيد من التكية واضحاً بلغة لم يعد أحد يغنى بها في هذه البلاد “بلبلي خون دلى جورد/ وكلى حاصل كرد”.

غفوت عند شروق الشمس من جديد.


اترك رد

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.

%d bloggers like this: