عمر هذا الكتاب يتجاوز المائة عام حيث طبعت هذه النسخة من الطبعة الأولي الصادرة عن مطابع السعادة بجوار محافظة مصر عام 1908. وكما هو مبين في صورة الصفحة الأولي عنوان الكتاب “تحفة المُجالس. ونزهة المجَالس”. تظهر الصورة أيضاً سوء حالة النسخة وصعوبات التخزين والاختفاء والظهور التي مرت بها حتي ظهرت أمامى مرة آخري.
عثرت على الكتاب للمرة الأولي في مكتبة جدى، وفي ذهنى لفترة طويلة كان هو كل ما أعرفه عن الامام جلال الدين السيوطي الذي يظهر اسمه كمؤلف للكتاب. لكن سأعرف بعد ذلك أن السيوطى تحديد ودون عن كل المؤلفين العرب واحد من أكثر الأسماء الذين تنسب لهم عشرات وربما مئات العناوين من الكتب تبدأ من الكتب الطبية والوصفات الشعبية، وحتى مجلدات الفقه وأصول الدين مروراً بأمور السحر وفك الأعمال أحياناً وحتى كتب الطرائف التاريخية وأخبار اللطائف. وكتابنا ينتمى إلي الباب الأخير.
لا أمتلك الخبرة البحثية لا قرار مدى صحة نسب الكتاب للسيوطى. أما الكتاب ذاته فمقسم إلي أبواب تبدأ في فضل العقل، ثم فضل العلم، فضل الأنبياء، في الخلفاء الأمويين، في الخلفاء العباسيين، في المتلصصين، في حكايات العشاق. وهكذا تتوارد النوادر والحكايات في نظم بديع، يخلط التاريخ بالأساطير والخيال الشعبي. في الكثير من مقاطع الكتاب تظهر بعض الألفاظ تحديداً كإيري، نيك. وغيرها من الألفاظ التي تتصل بالأعضاء الجنسية أو بعمليات مرتبطة بأشكال من الاتصالات الجنسية. الكتاب سيكون من الكتب القليلة التي ستطبع في القرن العشرين وهى تحتوى على هذه الألفاظ، التي ستختفي تدريجياً بعد ذلك من اللغة المكتوبة، وستنبذ شيئاً فشيئاً من عالم الأدب الحديث، ستحرم بكل تأكيد في عالم اللغة الفصحي الوسطي الجديدة التي ستتداول في الجرائد والمجالات والقنوات الإعلامية. ستحاصر هذه الألفاظ أولاً في كتاب التراث المكتوبة التي يعاد نسخها وطباعتها وسيجري محوها في أحياناً آخري حتي تظهر في الأسواق نسخ نظيفة من “ألف ليلة وليلة” تختفي فيها ليالي المجون والمغامرات وقصص العشاق.
ستحارب هذه الألفاظ وسينكل بها وتطرد لا خارج عالم الأدب فقط بل خارج اللغة المكتوبة الحديثة. ستستبدل بأسماء مشتقة من وظائفها. الزبر أو الاير يتحول إلي “قضيب”، والكس يتحول إلي “فرج”. كما عالم الآلة، وظائف وقضبان وفتحات.
التحريم هنا لم يكن بسبب أنها ألفاظ عامية. فهذه الألفاظ فصيحة ولها جذورها الصريحة الموضحة في المعاجم. وفي ذات الوقت فهي الألفاظ المتداولة محلياً للأعضاء الجنسية حتي الآن في العديد من اللهجات العربية. شخصياً لم أسمع يوماً أحدهم يقول قضيب أو فرج. ومع ذلك تظهر هذه الألفاظ في اللغة العربية المكتوبة. لكن مع ذلك ففي سلوك عربي بامتياز ستجري عملية طمس هذه الألفاظ واستبدالها بمثيلتها من الإنجليزية، ستصبح كلمة “كس” لفظ خارج وإباحي بينما لفظ “فايجينا/vagine”.
لن تختفي الايروتيكيا ولا الكتابة عن الجنس بمختلف أشكالها، لكن بلا الألفاظ المعجمية الصحيحة الدالة على تلك الكلمات، والمعروفة والسائدة بين الناس. سيخلق المتعلمون العرب في القرن العشرين “جنس” خاص لهم. “جنس” يعبر عنه بكلمات وظيفية أو شيئية كالقضبان والفروج، أو يختفي ويطفو بين حقل أزهار مجازات العربية بين القضبان والفروج والمجازات الشعرية الرومانسية. أما الجنس لذاته فسيتضاءل امتياز مساحته الذي ساد في الكتب التراثية العربية. في كتاب “تحفة المجالس” ترد قصة مفاداها أن أبو نواس اختلي يوماً بجاريه لكن ايره لم يقف، يتوالي رده علي الجارية شعرياً بينما تقوم بمحاولات مختلفة لدفعه للانتصاب. ثم تنتهى القصة بفشل كل محاولاته، كل هذا في سرد يتناوب فيه الشعر المضمن في سياق القصة بالنثر الذي يكمل الفجوات الدراميا.
لكن بما ستفيد قصة كتلك شعوب تحاول التحرير من احتلال الاستعمار الأوروبي بخلق صورة لهويتها القومية على نسق قيم الحداثة الأوروبية. ستمحو هذه القصص وتغيب تحت طيات علم تحقيق التراث الرصين، وربما تختفي قصة كتلك لمجرد أن القصائد المنسوبة لأبو نواس ليست قصائده، أو لأن فيها كلمات أصبحت خارجة وغير مهذبة. سيتحول مجرد ذكر هذه الكلمات لوحدها إلي إهانة وسبة وستوصف بالكلمات النابية سيتسأل الكاتب والمترجم نائل الطوخي عن معنى “كس أمك” وستصبح الجملة الخالية من مبتدأ أو خبر سبة. مجرد ذكر تلك الألفاظ المحرمة أثناء العراك أصبح سبة حتى لو لم تكن هناك لعنة أو جملة مفيدة.
صحيح أن جرت العادة على استخدام بعض هذه الكلمات في سياق السب والتراشق اللفظي، لكن حتي في حديث “امصص ببظر اللات” نجد هنا سبة هي جملة مكتملة تحتوى على فعل الإهانة. لكن الآن فذكر “الكس” لوحده أصبح سبة.
لقد حملت تلك الألفاظ عشرات الدلالات السلبية بداية من دلات طبقية، حيث استبدلت طبقات المتعلمين المعاصرة تلك الكلمات بمثيلتها من الإنجليزية أو الفرنسية. وأصبح استخدامها دليل على شعبوية، أو خارج الامتياز لفئة المتعلمين المهذبين أبناء الناس “الكويسين”.
وبهذه الدلالات جري استعمال هذه الكلمات والألفاظ على نطاق واسع مع انتشار الانترنت، برزت في الشتائم أولاً، ثم في القصص الجنسية و”البورنوغرافيىة” المنتشرة على الانترنت، والتي كانت بوقته للقاء كل اللهجات العربية ومعرفة التنوع الفصيح التي اكتسبته تلك الألفاظ في كل لهجة، شهد الانترنت حملات رافضة لاستخدام تلك الألفاظ تحت دعاوى التهذيب والأدب. لكن الحملات لم تنجح في إيقاف الاندفاع العنيف للمستخدم العربي للتعبير عن نفسه واستخدام كلماته التي طالما حرمتها النخبة المتعلمة المحترمة. يدفع الانترنت بقوة إلي سقوط حائط الخجل والخوف من تلك الكلمات وهى تزحف شيئاً فشيئاً لتصبح جزء من لغة المشهد الإعلامي وتخرج من حجاب التحريم. كانت التحول الأكبر في استخدام كلمة “العرص” والتي تحمس لها الاسلاميين لأسباب سياسية، لنري كيف أن أكثر فصيل تظاهر بفرض قيمه الأخلاقية على اللغة وتحريم بعض كلماتها يستخدم اليوم ما حرمه الأمس، بل لتظهر الكلمة في نشرات الأخبار معبراً عن الصراع السياسي.
تعود الكلمات المنبوذة شيئاً فشيئاً لعالم الأدب، وبفضل الانترنت وديمقراطية الاعلام على حسب تفضيلات المستخدمين، تخرج من حيائها الذي فرضته عليها مشاريع الحداثة والتنوير العربية. لا يزال البعض يري في الأمر ردة، وتدشن المقالات والموضوعات الصحفية حول تدهور الأخلاق واستخدام الألفاظ “الخارجة” على الانترنت. لكن ما يحدث هو العكس حيث يحرر الأفراد لغتهم ويستعيدونها. ربما يوماً ما قريباً قد يتمكن العرب عن التحدث عن الجنس بلغتهم دون تجريم أو إحساس بالذنب لاستخدامهم ألفاظ خارجة.
نشرت للمرة الأولى في موقع الحب ثقافة عام 2014