آفاق الثقافة ومهمة الفن في الستينات: ‏ صناعة مصري المستقبل

Published by

on

كتتويج لإنجازات وتجربة واحد من أبناء ثورة ونظام يوليو الفنانين والمبدعين، خصصت وزارة الثقافة المصرية هيئة كاملة بعنوان فخيم هو “مركز الفيلم التجريبي” ليرأسه المخرج والفنان ومصمم الديكورات شادى عبد السلام.

رأس شادى عبد السلام مركز الفيلم التجريبي لمدة خمس سنوات بدأت منذ 1970، وخلال هذه المدة أنتج المركز أكثر من فيلم معظمها كانت من إخراج شادى عبد السلام ذاته. أي أن شادى كان يستغل منصبه في الوزارة لينتج أفلام يخرجها هو. في بعض النظم والمعايير القانونية يعتبر هذا الأمر شبهه أو دلالة على الفساد الإداري، لكن في المعايير المصرية يعتبر تقدير من جانب الدولة لواحد من فنانيها الذي نجحوا في انتزاع الاعتراف العالمى وفي تمثيل مصر بخير الصور والأشكال في المحافل الثقافية الدولية.

ولد شادى في 15 مارس 1930 بالإسكندرية، وتلقي تعليمه بين لندن والقاهرة والإسكندرية من المسرح حتى العمارة بكلية الفنون الجميلة. ليلتحق بالجيش لأداء الخدمة العسكرية عام 1956. وهى السنة التي كان فخوراً بشدة بيها وتحدث عنها في أكثر من سياق، ومثلت فرصة لابن البرجوازية المصرية بالالتقاء بفئات وطبقات مختلفة من الشعب المصري. شهدت هذا السنة أيضاً تألق المشروع الناصري، وإعلان انتصاره الذهبي وقدرته على تحدي عدوان من ثلاث دول بعدما أعلن عبد الناصر تأمين قناة السويس. نجيب محفوظ واحد من أقل المتحمسين لنظام عبد الناصر وصف إحساسه عام 1956 بعد انسحاب الدول المعتدية على مصر قائلاً: “شعرت أننا دولة عظمي”.

بدأت مسيرة شادى الفنية بعد ذلك بتصميم الملابس والرقصات، كانت البداية مع تصميم لبدلة رقص أعده لتحية كاريوكا، ثم عمل كمصمم للمناظر مع قائمة طويلة من المخرجين تبدأ من صلاح أبو سيف وحتى جوزيف مانكيفيتش في الفيلم الأمريكي “كليوبترا”، وروبرتو روسيلينى في فيلمه التسجيلي عن الحضارة القديمة (1967).

بينما يشق شادى مسار رحلته الخاصة، كانت الدولة في مصر تأمم المجال الفني بشكل كلى، ويشمل هذا تأميم شركات الإنتاج السينمائي الكبيرة، وتأميم شركات التوزيع. بمعنى أن أدوات الإنتاج والتوزيع والعرض أصبحت كلها في يد الدولة. أنشئت الدولة الجمهورية أيضاً “وزارة الثقافة والإرشاد القومى” التي تحولت بعد ذلك لتصبح “وزارة الثقافة” حيث غاب الإرشاد والتوجيه من الاسم لكنه حضر في أفعال وبرامج الوزارة.

داخل هذه البيئة طور شادى مشروعه الفني، الذي جاء ملتصقاً بالهوية الجماعية المصرية وامتداداً للسياسية الثقافية ومفاهيم التنوير السائدة في ذلك الزمن. اهتمام شادى بالملابس والديكورات وغيره من أشكال التعبير البصري جعله يدرك أن الملابس والديكورات ليست أشكال جمالية، بل تعبير عن تصورات عن الهوية وأفكار وقيم اجتماعية تشكل حياة الناس وعلى أساسها تشكل ملابسهم والبيوت التي يعيشون فيها.

في مقدمة الفيلم التسجيلي “الفرعون الأخير” والذي يوثق لتجربة شادى عبد السلام يقول شادى: ” منذ أن بدأت أعمل وأنا أعتقد أن لى قضية، قضيتى هي التاريخ الغائب أو المفقود الناس الذي نراهم في الشوارع والبيوت، في الحقول والمصانع، لهم تاريخ. هؤلاء الناس أغنوا الإنسانية، كيف نعيدهم للدور نفسه؟ كيف نستعيد مساهمتهم الإيجابية والقوية في الحياة؟ لا بد أولاً أن يعرفون من هم؟ وماذا كانوا؟ وماذا قدموا؟ لا بد أن نوصل بين إنسان اليوم وإنسان الأمس لنقدم إنسان الغد…هذه هي قضيتى”.

  صورت ثورة يوليو نفسها، كعودة للوعى الغائب. فالثورة أتت بجمال عبد الناصر، أو رئيس مصري لمصر، كما كانت تتفاخر دعاية نظام يوليو بذلك. وفي سياق هذه البروبجندا فقد نهضت وزارة الثقافة والمثقفين العاملين فيها بمهمة إعادة اكتشاف الهوية المصرية، وجعلوا من أنفسهم كما يعلق بدر الديب في روايته إجازة تفرغ حراس على الهوية والفلكلور. في روايته البديعة التي تتناول قصة نحات يقرر اعتزال العمل الفني نهاية الستينات لعدم قدرته على الاندماج مع المؤسسات القائمة الفنية والثقافية حتى تنتهى عزلته بانتحار أمام البحر مع مقطوعتها النحتية التي عمل على إنجازها في عزلته، يقدم بدر الديب فكرة دالة على طبيعة الأدوار المنوط بها الجماعة الفنية والثقافية في هذه المرحلة قائلاً:

أنهم أصبحوا يتحركون ويلعبون تماماً كما هو متوقع. وما أبشع ما كانوا يقولونه عن الفلكلور وما يصنعونه بالمواويل وحكايات ألف ليلة وليلة. كانوا وكأنهم موكولون بإفساد كل شيء واللعب في كل عروق وخلايا الناس حتى لا تبقي ذرة من أجسامهم لم تتشبع. وعندما يعودون من القري أو المراكز ومن احتفالات المحافظين يكتبون التقارير، بعضها سري وبعضها احصائي وبعضها يستحيل إلي مقالات تفلسف الحركة وتضع المبادئ وكلها إصرار على الاشتراكية وعلى ثقافة المستقبل التي ستغمر البلد كما يغمرها نور السد.

ومنتقداً استنباط صور محددة الأطر عن الهوية من خلال حياة الناس ثم محاولة فرض تلك التصورات عليهم قائلاً: “لماذا لا يفهمون أن التراث كالنيل يمكن أن تروي الأرض به ولكن لا يمكن أن تجعله أنهاراً أخري مهما فعلت. قد تعلم الناس أن يرقصوا كالقرود فإذا سحبت الطبلة والموزة عادوا إلي لعبهم الخاص الذي لا تستطيع أن تمسك به أو تتحكم فيه.” فهو يحددون ما هو الفلكلور المصري وما هي الهوية المصرية، وينقون هذا الفلكلور من فطريته أو مل يتعارض مع القيم التقدمية التي يروجون له، ثم يجعلون من أنفسهم حراساً على هذا الفلكلور.

فيلم آفاق لشادى عبد السلام، والذي يثمل توثيق لأنشطة وبرامج وزارة الثقافة، هو في جوهرة جزء من هذه البروبجندا الدعائية. ويمكن اعتباره بمثابة المشهد الختامي حيث بداية من السبعينات في عهد السادات ستشهد وزارة الثقافة تقلصات في ميزانيتها، وتحول في سياساتها التنويرية.

لذا فالفيلم يمكن اعتباره رؤية أحد كهنة التنوير والهوية المصرية شادى عبد السلام في 38 دقيقة من البروبجندا لجهاز الدولة الثقافي وآفاقه. يمكن الحديث في مقال آخر حول جوانب الصنعة والمهارة الفنية في الإخراج والتنفيذ وهذا التكلف المعتاد لدى شادى حتى وهو يصنع فيلماً “تسجيلياً”. لكن ما يهتم به هذه المقال هو الأفكار والقيم التي يروج لها الفيلم عن الهوية الثقافية المصرية، وكيف يعكسها في تيمات بصرية تحتشد في كل كادر من كادرات فيلم آفاق شادي. إلي جانب شهادات بعض الفنانين الذين يظهرون في الفيلم وطبيعة علاقتهم بشادي، والتي تكشف عن سيادة أنماط من الشللية والأخوية تقود عملية إنتاج مثل هذه الأفلام، وتعطينا لمحة عن طبيعة إدارة المؤسسات الثقافية، والمسافة بين ذلك والقيم التي تحاول تقديمها والترويج لها.

المصري  يرتدى البدلة ويعزف الموسيقي السيمفونية

يفتتح شادى فيلمه على كادر لأوركسترا القاهرة السيمفونى بقيادة يوسف السيسي يتسع مع تصاعد إيقاع افتتاحية كارمينا بورانا لكارل أورف (Carl Orff). للأوبرا والموسيقي السيمفونى مكانة خاصة في الوعى المصري. دخلت الموسيقي السيمفونية الغربية مصر في القرن التاسع عشر، كأحد الفنون الغربية المفضلة للأسرة العلوية الحاكمة والنخبة الأجنبية البرجوازية في مصر. أثناء الاعداد لاحتفالات افتتاح قناة السويس كلف الخديوى إسماعيل الموسيقار الإيطالي فريدي بتأليف أوبرا عايدة لعرضها في حفل الافتتاح، لكن عملية تصميم الملابس والديكورات تأخرت –سيصبح التأخير صفة ملازمة لعمليات الإنتاج الفني والثقافي في مصر بعد ذلك–مما أضطر القائمين إلي الاستعانة بفرقة إيطاليا أخيرة لتقديم أوبرا ريجوليتو. وحينما كون نجم العهد الملكى في أفوله الأخير، سيكون حريق القاهرة والأوبرا الخديوية عام 1971هو تلويحة الوداع لحقبة كاملة. لكن شغف السلطة الحاكمة بالفنون الأوبراية المختلفة سيستمر حتى مع العهد الجمهوري. في 1963 وبكلمات صلاح جاهين شاعر النظام الأولى سيغنى عبد الحليم نجم الثورة ملخصاً البرنامج الثقافي لثورة يوليو “تماثيل رخام على الترعة، وأوبرا.. في كل قرية عربية”.

الأوبرا ليست للبرجوازية بل للجميع للفلاحين في القري، والنجوع. ولهذا حينما يفتتح شادي فيلم عن أنشطة وزارة الثقافة بمشهد للأوركسترا فكأنه يقدم إجابة بالصورة على حلم جاهين وعبد الحليم من عشر سنوات. وهو حلم في قلبه يحمل قدر من الندية في تصور مثقف الجمهورية عن ذاته كمثقف قادر على تذوق فنون الغرب الاستعماري، وأثبات مساواته أمام أصحاب الدم الأزرق الملكي في قدرته على تذوق الفنون الأوبراية وإنتاجها.

المصري فلاح يعيش في بيئة يعرف مقاييسها وأسرارها كهنة العمارة المصرية

المشهد التالي رمسيس ويصا واصف (1911- 1974) يتحرك داخل مدرسة الحرانية للنسيج. ويصا معماري مصري حصل على دبلوم الفنون من أكاديمية الفنون في باريس عام 1935، وشكل مع حسن فتحى مدرسة للعمارة المصرية اعتمدت على توظيف تقنيات البناء التقليدي، وعلى خطوط ما يعتبره معبراً عن الهوية المصرية. في الفيلم تستعرض كاميرا شادى عبد السلام بيوت كلها منحنيات مهندسة بدقة بالغة تحاول في يأس محاكاة الفطرية التلقائية في بيوت الفلاحين. ينعكس هذا على الخزف الذي يتراص في فراغات الجدران في مبانى مدرسة الحرانية.

أسس رمسيس ويصا، مدرسة الحرانية للحفاظ على صناعة النسيج اليدوى في مقابل زحف الماكينات الحديثة على الصناعة. دافعت النخبة الثقافية عن توجهات فنية ومعمارية كتوجهات ويصا وحسن فتحي لأسباب منبعها الأساسي الحفاظ على ما يعتبرونها ممثلاً للهوية المصرية. وهو ببساطة ما يتجسد في مشروع ويصا من خلق لبيئة مصنعة كنموذج محاكاة مثالي لما يتصورونه عن الريف، وتنمية احاسيس طبقية وقومية، وعكس هذه التصورات في منتجات صناعية تحمل هذه الرسائل وتحمل صفة الفن لمجرد كونها منتجها ضمن هذه المحاكاة. الفلاحون يجدون أنفسهم في قبضة مهندسين يريدون منهم أن يعملوا بأيديهم دفاعاً عن الصناعات التقليدية، لكن ما ينتجونها لن يتم عرضه والتعامل معه كمنتجات صناعية، بل كأعمال فنية سيروج لها المهندسون مضيفين عليها المزيد من الصفات تجعلها مؤهلة للعرض في الجاليرهات الفنية كنسخة لا يمكن تقليديها أو تكرارها بالتالي سيتم اعتباره فن مكانه الجاليري.

في أماكن كمدرسة الحرانية، كان يتم سلخ الحرف والصناعات الشعبية عن بيئتها، وتجميدها لإعادة إنتاجها تحت إشراف مهندسين وأوصياء كرمسيس ويصا ثم تصوير تلك العملية لإنتاج منتج ثالث كفيلم شادي هنا.

ما الذي يفعله محمد صبحي هنا؟ أنه صديق المخرج

مثل كل مؤسسات الدولة في هذا الوقت كانت المؤسسات الثقافية تمارس عملها بعيداً عن أي شكل من أشكال الرقابة الشعبية، ونظام المحاسبة الأساسي المتبع هو القائم على الرضا الأمني وعدم الانحراف عن الخطوط العام للسياسية الثقافة للدولة. وفي مثل هذا المناخ تتغلغل شبكات العلاقات الشخصية لعلاقات العمل، ويختفي الحد الفاصل بين تضارب المصالح. فمحمد صبحي الممثل والذي كان وقتها ممثلاً شاباً أعجب به شادى ورشحه لدور في فيلمه الذي لم ينفذ اخناتون. في شهادة لمحمد صبحى عن شادى عبد السلام قال أنه دعاه للتمثيل والظهور في فيلم آفاق لأنه علم أن صبحي على وشك الخطوبة فقرر أن يصور معه في الفيلم حتي تكون وسيلة ليمنحه أجر يساعده في اتمام خطبته.

أن مثل هذه الممارسات ليست من قبيل شبهات الفساد فقط، بل تعطينى فكرة عن الحالة البراجماتية التي تعامل بها شادى مع الفيلم، والمحاذير التي بدا واضحاً انه خضع له. ففي ذات الشهادة يقول محمد صبحي بأن شادى كان يحاول في البداية التملص من اخراج الفيلم، لأن فكرة أن ينتج فيلم بالأمر المباشر وليس نابعاً من رغبته لم تكن تروق له. لكنه تراجع بعد ذلك وأنتج الفيلم. في ذات الشهادة أيضاً يقول صبحي بأن شادى قام بتصوير مبنى الأوبرا بعد حرقه وأنه أراد أن يظهر فيلم آفاق الأوبرا التي يفتتح بها الفيلم في البداية بكامل جمالها وعملها، وأن يظهرها بعد الحريق لكن لأسباب رقابية لم يتمكن من وضع الجزء الذي صور فيه الأوبرا بعد احتراقها. فالأمر بالطبع لا يتماش مع فيلم عن البروبجندا الثقافية كما طلب من شادى.

الفنان روح هائمة تطل على العالم من مشربية عربية

شهدت فترة الستينات تغييرات جذرية في سوق الفن التشكيلي، فالتأميم وهجرة الأجانب من مصر أثرت على القدرات الاستهلاكية للطبقة البرجوازية المصرية، وتضاءل وجود الجاليرهات الخاصة التي تبيع الأعمال الفنية. وتأميم الدولة لذلك المجال شمل تأسيس قطاع الفنون التشكيلية، كجهة مشرفة على المتاحف الفنية، وإقامة المعارض، ورعاية الفنانين. أحد أدوات الوزارة في المجال الفني كانت منح التفرخ ومنح الإقامة. جري تخصيص عدد من المساحات والمبانى الأثرية كاستديوهات لبعض الفنانين. يظهر منهم في الفيلم، عز الدين نجيب، حامد ندا، عبد الوهاب مرسي، محمد نبيل، وآدم حنين. يبدو التجريد عنصر مشترك في معظم اللوحات التي تعرض في الفيلم لهؤلاء الفنانين. وهم يقيمون في قصر المسافر خانة (احترق بالكامل في عهد فاروق حسنى عام 1998).

في الجزء الأول من الفيلم يظهر حسن سليمان في مرسمه الخاص. المكان هو الأقل تنظيماً والأكثر تلقائية في كل الأماكن التي تظهر في الفيلم. يظهر في الكادر أرفف مكدسة بالكتب، وأشكال مختلفة من براد الشاي، مستنسخات للوحات عالمية، ولوحة تبرز فيها كتلتين واحدة قد تبدو ككتاب والآخري كوب. حسن سلمان يظهر في الكادر يرتدى الروب “دى شامبر”. مرتاحاً فيما يبدو كمنزلة، يتناول لعب ورقية كالأرجوز يحركها بيده بينما تحلق فوقه مراكب تحمل علم مصر.

يختتم الفيلم بقطع نحتيه لآدم حنين تنتصب في الصحراء، وآخر قطعة نراها منحوتة لجسد يظلل عينيه بيديه، يد كأنها تغطي العين اليسري واليد الأخيرة تصنع حجاب فوق كلتا العينين، ثم نشاهد طاقم العمل ينصرف باتجاه أتوبيس الإنتاج وظهره للكاميرا. ينصرف أتوبيس الإنتاج ويظل الكادر مفتوح على الصحراء حتى “تيتر” النهاية.

وسط ركام الإشارات وثقل البروبجندا الواضح في معظم كادرات الفيلم، إلا أن مشهد حسن سليمان والنهاية المفتوحة على تماثيل آدم حنين يبدوان كخروج مقصود عن مسار النوتة المرسومة للفيلم. مساحة خافتة يمنحها شادى لأصوات منحازة لعوالمها الخاصة وصوتها المنفرد. وسط ثقل الدولة وظل برنامجها الدعائي الجاثم على عناصر الفيلم. لكن الآمر ليس فقط أن شادى وغيره من الفنانين كانوا مضطرين للعمل في هذه البيئة. بل إن في حالة شادة كان هناك إيمان صادق بهذا المشروع، بقدرة الفن على حل أزمة هوية مجتمع كامل بل وكما يقول شادى أن “يصل بين إنسان الماضي وإنسان الحاضر لنقدم إنسان الغد”. يمكن لشادى أو أي فنان أن يتصور ما يشاء عن قدرات فنه والغاية مما يقوم به. لكن شادى ظل مؤمناً بأن مهمة تقديم إنسان المستقبل منوط بها مؤسسات إنتاج الخطاب القومى والدولتى. هي ذاتها الدولة التي رفضت تمويل مشروع فيلمه الأخير الذي مات يحلم به اخناتون. وظل هو وفياً للعهد ولأفكاره رافضاً كل العروض الأجنبية التي قدمت  لإنتاج الفيلم، لأنه أراد للفيلم أن يكون مصرياً خالصاً وصك المصرية هنا تحمله الدولة المنوط بها الوصل بين إنسان الماضى وإنسان الحاضر.

كتتويج لإنجازات وتجربة واحد من أبناء ثورة ونظام يوليو الفنانين والمبدعين، خصصت وزارة الثقافة المصرية هيئة كاملة بعنوان فخيم هو “مركز الفيلم التجريبي” ليرأسه المخرج والفنان ومصمم الديكورات شادى عبد السلام.

رأس شادى عبد السلام مركز الفيلم التجريبي لمدة خمس سنوات بدأت منذ 1970، وخلال هذه المدة أنتج المركز أكثر من فيلم معظمها كانت من إخراج شادى عبد السلام ذاته. أي أن شادى كان يستغل منصبه في الوزارة لينتج أفلام يخرجها هو. في بعض النظم والمعايير القانونية يعتبر هذا الأمر شبهه أو دلالة على الفساد الإداري، لكن في المعايير المصرية يعتبر تقدير من جانب الدولة لواحد من فنانيها الذي نجحوا في انتزاع الاعتراف العالمى وفي تمثيل مصر بخير الصور والأشكال في المحافل الثقافية الدولية.

ولد شادى في 15 مارس 1930 بالإسكندرية، وتلقي تعليمه بين لندن والقاهرة والإسكندرية من المسرح حتى العمارة بكلية الفنون الجميلة. ليلتحق بالجيش لأداء الخدمة العسكرية عام 1956. وهى السنة التي كان فخوراً بشدة بيها وتحدث عنها في أكثر من سياق، ومثلت فرصة لابن البرجوازية المصرية بالالتقاء بفئات وطبقات مختلفة من الشعب المصري. شهدت هذا السنة أيضاً تألق المشروع الناصري، وإعلان انتصاره الذهبي وقدرته على تحدي عدوان من ثلاث دول بعدما أعلن عبد الناصر تأمين قناة السويس. نجيب محفوظ واحد من أقل المتحمسين لنظام عبد الناصر وصف إحساسه عام 1956 بعد انسحاب الدول المعتدية على مصر قائلاً: “شعرت أننا دولة عظمي”.

بدأت مسيرة شادى الفنية بعد ذلك بتصميم الملابس والرقصات، كانت البداية مع تصميم لبدلة رقص أعده لتحية كاريوكا، ثم عمل كمصمم للمناظر مع قائمة طويلة من المخرجين تبدأ من صلاح أبو سيف وحتى جوزيف مانكيفيتش في الفيلم الأمريكي “كليوبترا”، وروبرتو روسيلينى في فيلمه التسجيلي عن الحضارة القديمة (1967).

بينما يشق شادى مسار رحلته الخاصة، كانت الدولة في مصر تأمم المجال الفني بشكل كلى، ويشمل هذا تأميم شركات الإنتاج السينمائي الكبيرة، وتأميم شركات التوزيع. بمعنى أن أدوات الإنتاج والتوزيع والعرض أصبحت كلها في يد الدولة. أنشئت الدولة الجمهورية أيضاً “وزارة الثقافة والإرشاد القومى” التي تحولت بعد ذلك لتصبح “وزارة الثقافة” حيث غاب الإرشاد والتوجيه من الاسم لكنه حضر في أفعال وبرامج الوزارة.

داخل هذه البيئة طور شادى مشروعه الفني، الذي جاء ملتصقاً بالهوية الجماعية المصرية وامتداداً للسياسية الثقافية ومفاهيم التنوير السائدة في ذلك الزمن. اهتمام شادى بالملابس والديكورات وغيره من أشكال التعبير البصري جعله يدرك أن الملابس والديكورات ليست أشكال جمالية، بل تعبير عن تصورات عن الهوية وأفكار وقيم اجتماعية تشكل حياة الناس وعلى أساسها تشكل ملابسهم والبيوت التي يعيشون فيها.

في مقدمة الفيلم التسجيلي “الفرعون الأخير” والذي يوثق لتجربة شادى عبد السلام يقول شادى: ” منذ أن بدأت أعمل وأنا أعتقد أن لى قضية، قضيتى هي التاريخ الغائب أو المفقود الناس الذي نراهم في الشوارع والبيوت، في الحقول والمصانع، لهم تاريخ. هؤلاء الناس أغنوا الإنسانية، كيف نعيدهم للدور نفسه؟ كيف نستعيد مساهمتهم الإيجابية والقوية في الحياة؟ لا بد أولاً أن يعرفون من هم؟ وماذا كانوا؟ وماذا قدموا؟ لا بد أن نوصل بين إنسان اليوم وإنسان الأمس لنقدم إنسان الغد…هذه هي قضيتى”.

  صورت ثورة يوليو نفسها، كعودة للوعى الغائب. فالثورة أتت بجمال عبد الناصر، أو رئيس مصري لمصر، كما كانت تتفاخر دعاية نظام يوليو بذلك. وفي سياق هذه البروبجندا فقد نهضت وزارة الثقافة والمثقفين العاملين فيها بمهمة إعادة اكتشاف الهوية المصرية، وجعلوا من أنفسهم كما يعلق بدر الديب في روايته إجازة تفرغ حراس على الهوية والفلكلور. في روايته البديعة التي تتناول قصة نحات يقرر اعتزال العمل الفني نهاية الستينات لعدم قدرته على الاندماج مع المؤسسات القائمة الفنية والثقافية حتى تنتهى عزلته بانتحار أمام البحر مع مقطوعتها النحتية التي عمل على إنجازها في عزلته، يقدم بدر الديب فكرة دالة على طبيعة الأدوار المنوط بها الجماعة الفنية والثقافية في هذه المرحلة قائلاً:

أنهم أصبحوا يتحركون ويلعبون تماماً كما هو متوقع. وما أبشع ما كانوا يقولونه عن الفلكلور وما يصنعونه بالمواويل وحكايات ألف ليلة وليلة. كانوا وكأنهم موكولون بإفساد كل شيء واللعب في كل عروق وخلايا الناس حتى لا تبقي ذرة من أجسامهم لم تتشبع. وعندما يعودون من القري أو المراكز ومن احتفالات المحافظين يكتبون التقارير، بعضها سري وبعضها احصائي وبعضها يستحيل إلي مقالات تفلسف الحركة وتضع المبادئ وكلها إصرار على الاشتراكية وعلى ثقافة المستقبل التي ستغمر البلد كما يغمرها نور السد.

ومنتقداً استنباط صور محددة الأطر عن الهوية من خلال حياة الناس ثم محاولة فرض تلك التصورات عليهم قائلاً: “لماذا لا يفهمون أن التراث كالنيل يمكن أن تروي الأرض به ولكن لا يمكن أن تجعله أنهاراً أخري مهما فعلت. قد تعلم الناس أن يرقصوا كالقرود فإذا سحبت الطبلة والموزة عادوا إلي لعبهم الخاص الذي لا تستطيع أن تمسك به أو تتحكم فيه.” فهو يحددون ما هو الفلكلور المصري وما هي الهوية المصرية، وينقون هذا الفلكلور من فطريته أو مل يتعارض مع القيم التقدمية التي يروجون له، ثم يجعلون من أنفسهم حراساً على هذا الفلكلور.

فيلم آفاق لشادى عبد السلام، والذي يثمل توثيق لأنشطة وبرامج وزارة الثقافة، هو في جوهرة جزء من هذه البروبجندا الدعائية. ويمكن اعتباره بمثابة المشهد الختامي حيث بداية من السبعينات في عهد السادات ستشهد وزارة الثقافة تقلصات في ميزانيتها، وتحول في سياساتها التنويرية.

لذا فالفيلم يمكن اعتباره رؤية أحد كهنة التنوير والهوية المصرية شادى عبد السلام في 38 دقيقة من البروبجندا لجهاز الدولة الثقافي وآفاقه. يمكن الحديث في مقال آخر حول جوانب الصنعة والمهارة الفنية في الإخراج والتنفيذ وهذا التكلف المعتاد لدى شادى حتى وهو يصنع فيلماً “تسجيلياً”. لكن ما يهتم به هذه المقال هو الأفكار والقيم التي يروج لها الفيلم عن الهوية الثقافية المصرية، وكيف يعكسها في تيمات بصرية تحتشد في كل كادر من كادرات فيلم آفاق شادي. إلي جانب شهادات بعض الفنانين الذين يظهرون في الفيلم وطبيعة علاقتهم بشادي، والتي تكشف عن سيادة أنماط من الشللية والأخوية تقود عملية إنتاج مثل هذه الأفلام، وتعطينا لمحة عن طبيعة إدارة المؤسسات الثقافية، والمسافة بين ذلك والقيم التي تحاول تقديمها والترويج لها.

المصري  يرتدى البدلة ويعزف الموسيقي السيمفونية

يفتتح شادى فيلمه على كادر لأوركسترا القاهرة السيمفونى بقيادة يوسف السيسي يتسع مع تصاعد إيقاع افتتاحية كارمينا بورانا لكارل أورف (Carl Orff). للأوبرا والموسيقي السيمفونى مكانة خاصة في الوعى المصري. دخلت الموسيقي السيمفونية الغربية مصر في القرن التاسع عشر، كأحد الفنون الغربية المفضلة للأسرة العلوية الحاكمة والنخبة الأجنبية البرجوازية في مصر. أثناء الاعداد لاحتفالات افتتاح قناة السويس كلف الخديوى إسماعيل الموسيقار الإيطالي فريدي بتأليف أوبرا عايدة لعرضها في حفل الافتتاح، لكن عملية تصميم الملابس والديكورات تأخرت –سيصبح التأخير صفة ملازمة لعمليات الإنتاج الفني والثقافي في مصر بعد ذلك–مما أضطر القائمين إلي الاستعانة بفرقة إيطاليا أخيرة لتقديم أوبرا ريجوليتو. وحينما كون نجم العهد الملكى في أفوله الأخير، سيكون حريق القاهرة والأوبرا الخديوية عام 1971هو تلويحة الوداع لحقبة كاملة. لكن شغف السلطة الحاكمة بالفنون الأوبراية المختلفة سيستمر حتى مع العهد الجمهوري. في 1963 وبكلمات صلاح جاهين شاعر النظام الأولى سيغنى عبد الحليم نجم الثورة ملخصاً البرنامج الثقافي لثورة يوليو “تماثيل رخام على الترعة، وأوبرا.. في كل قرية عربية”.

الأوبرا ليست للبرجوازية بل للجميع للفلاحين في القري، والنجوع. ولهذا حينما يفتتح شادي فيلم عن أنشطة وزارة الثقافة بمشهد للأوركسترا فكأنه يقدم إجابة بالصورة على حلم جاهين وعبد الحليم من عشر سنوات. وهو حلم في قلبه يحمل قدر من الندية في تصور مثقف الجمهورية عن ذاته كمثقف قادر على تذوق فنون الغرب الاستعماري، وأثبات مساواته أمام أصحاب الدم الأزرق الملكي في قدرته على تذوق الفنون الأوبراية وإنتاجها.

المصري فلاح يعيش في بيئة يعرف مقاييسها وأسرارها كهنة العمارة المصرية

المشهد التالي رمسيس ويصا واصف (1911- 1974) يتحرك داخل مدرسة الحرانية للنسيج. ويصا معماري مصري حصل على دبلوم الفنون من أكاديمية الفنون في باريس عام 1935، وشكل مع حسن فتحى مدرسة للعمارة المصرية اعتمدت على توظيف تقنيات البناء التقليدي، وعلى خطوط ما يعتبره معبراً عن الهوية المصرية. في الفيلم تستعرض كاميرا شادى عبد السلام بيوت كلها منحنيات مهندسة بدقة بالغة تحاول في يأس محاكاة الفطرية التلقائية في بيوت الفلاحين. ينعكس هذا على الخزف الذي يتراص في فراغات الجدران في مبانى مدرسة الحرانية.

أسس رمسيس ويصا، مدرسة الحرانية للحفاظ على صناعة النسيج اليدوى في مقابل زحف الماكينات الحديثة على الصناعة. دافعت النخبة الثقافية عن توجهات فنية ومعمارية كتوجهات ويصا وحسن فتحي لأسباب منبعها الأساسي الحفاظ على ما يعتبرونها ممثلاً للهوية المصرية. وهو ببساطة ما يتجسد في مشروع ويصا من خلق لبيئة مصنعة كنموذج محاكاة مثالي لما يتصورونه عن الريف، وتنمية احاسيس طبقية وقومية، وعكس هذه التصورات في منتجات صناعية تحمل هذه الرسائل وتحمل صفة الفن لمجرد كونها منتجها ضمن هذه المحاكاة. الفلاحون يجدون أنفسهم في قبضة مهندسين يريدون منهم أن يعملوا بأيديهم دفاعاً عن الصناعات التقليدية، لكن ما ينتجونها لن يتم عرضه والتعامل معه كمنتجات صناعية، بل كأعمال فنية سيروج لها المهندسون مضيفين عليها المزيد من الصفات تجعلها مؤهلة للعرض في الجاليرهات الفنية كنسخة لا يمكن تقليديها أو تكرارها بالتالي سيتم اعتباره فن مكانه الجاليري.

في أماكن كمدرسة الحرانية، كان يتم سلخ الحرف والصناعات الشعبية عن بيئتها، وتجميدها لإعادة إنتاجها تحت إشراف مهندسين وأوصياء كرمسيس ويصا ثم تصوير تلك العملية لإنتاج منتج ثالث كفيلم شادي هنا.

ما الذي يفعله محمد صبحي هنا؟ أنه صديق المخرج

مثل كل مؤسسات الدولة في هذا الوقت كانت المؤسسات الثقافية تمارس عملها بعيداً عن أي شكل من أشكال الرقابة الشعبية، ونظام المحاسبة الأساسي المتبع هو القائم على الرضا الأمني وعدم الانحراف عن الخطوط العام للسياسية الثقافة للدولة. وفي مثل هذا المناخ تتغلغل شبكات العلاقات الشخصية لعلاقات العمل، ويختفي الحد الفاصل بين تضارب المصالح. فمحمد صبحي الممثل والذي كان وقتها ممثلاً شاباً أعجب به شادى ورشحه لدور في فيلمه الذي لم ينفذ اخناتون. في شهادة لمحمد صبحى عن شادى عبد السلام قال أنه دعاه للتمثيل والظهور في فيلم آفاق لأنه علم أن صبحي على وشك الخطوبة فقرر أن يصور معه في الفيلم حتي تكون وسيلة ليمنحه أجر يساعده في اتمام خطبته.

أن مثل هذه الممارسات ليست من قبيل شبهات الفساد فقط، بل تعطينى فكرة عن الحالة البراجماتية التي تعامل بها شادى مع الفيلم، والمحاذير التي بدا واضحاً انه خضع له. ففي ذات الشهادة يقول محمد صبحي بأن شادى كان يحاول في البداية التملص من اخراج الفيلم، لأن فكرة أن ينتج فيلم بالأمر المباشر وليس نابعاً من رغبته لم تكن تروق له. لكنه تراجع بعد ذلك وأنتج الفيلم. في ذات الشهادة أيضاً يقول صبحي بأن شادى قام بتصوير مبنى الأوبرا بعد حرقه وأنه أراد أن يظهر فيلم آفاق الأوبرا التي يفتتح بها الفيلم في البداية بكامل جمالها وعملها، وأن يظهرها بعد الحريق لكن لأسباب رقابية لم يتمكن من وضع الجزء الذي صور فيه الأوبرا بعد احتراقها. فالأمر بالطبع لا يتماش مع فيلم عن البروبجندا الثقافية كما طلب من شادى.

الفنان روح هائمة تطل على العالم من مشربية عربية

شهدت فترة الستينات تغييرات جذرية في سوق الفن التشكيلي، فالتأميم وهجرة الأجانب من مصر أثرت على القدرات الاستهلاكية للطبقة البرجوازية المصرية، وتضاءل وجود الجاليرهات الخاصة التي تبيع الأعمال الفنية. وتأميم الدولة لذلك المجال شمل تأسيس قطاع الفنون التشكيلية، كجهة مشرفة على المتاحف الفنية، وإقامة المعارض، ورعاية الفنانين. أحد أدوات الوزارة في المجال الفني كانت منح التفرخ ومنح الإقامة. جري تخصيص عدد من المساحات والمبانى الأثرية كاستديوهات لبعض الفنانين. يظهر منهم في الفيلم، عز الدين نجيب، حامد ندا، عبد الوهاب مرسي، محمد نبيل، وآدم حنين. يبدو التجريد عنصر مشترك في معظم اللوحات التي تعرض في الفيلم لهؤلاء الفنانين. وهم يقيمون في قصر المسافر خانة (احترق بالكامل في عهد فاروق حسنى عام 1998).

في الجزء الأول من الفيلم يظهر حسن سليمان في مرسمه الخاص. المكان هو الأقل تنظيماً والأكثر تلقائية في كل الأماكن التي تظهر في الفيلم. يظهر في الكادر أرفف مكدسة بالكتب، وأشكال مختلفة من براد الشاي، مستنسخات للوحات عالمية، ولوحة تبرز فيها كتلتين واحدة قد تبدو ككتاب والآخري كوب. حسن سلمان يظهر في الكادر يرتدى الروب “دى شامبر”. مرتاحاً فيما يبدو كمنزلة، يتناول لعب ورقية كالأرجوز يحركها بيده بينما تحلق فوقه مراكب تحمل علم مصر.

يختتم الفيلم بقطع نحتيه لآدم حنين تنتصب في الصحراء، وآخر قطعة نراها منحوتة لجسد يظلل عينيه بيديه، يد كأنها تغطي العين اليسري واليد الأخيرة تصنع حجاب فوق كلتا العينين، ثم نشاهد طاقم العمل ينصرف باتجاه أتوبيس الإنتاج وظهره للكاميرا. ينصرف أتوبيس الإنتاج ويظل الكادر مفتوح على الصحراء حتى “تيتر” النهاية.

وسط ركام الإشارات وثقل البروبجندا الواضح في معظم كادرات الفيلم، إلا أن مشهد حسن سليمان والنهاية المفتوحة على تماثيل آدم حنين يبدوان كخروج مقصود عن مسار النوتة المرسومة للفيلم. مساحة خافتة يمنحها شادى لأصوات منحازة لعوالمها الخاصة وصوتها المنفرد. وسط ثقل الدولة وظل برنامجها الدعائي الجاثم على عناصر الفيلم. لكن الآمر ليس فقط أن شادى وغيره من الفنانين كانوا مضطرين للعمل في هذه البيئة. بل إن في حالة شادة كان هناك إيمان صادق بهذا المشروع، بقدرة الفن على حل أزمة هوية مجتمع كامل بل وكما يقول شادى أن “يصل بين إنسان الماضي وإنسان الحاضر لنقدم إنسان الغد”. يمكن لشادى أو أي فنان أن يتصور ما يشاء عن قدرات فنه والغاية مما يقوم به. لكن شادى ظل مؤمناً بأن مهمة تقديم إنسان المستقبل منوط بها مؤسسات إنتاج الخطاب القومى والدولتى. هي ذاتها الدولة التي رفضت تمويل مشروع فيلمه الأخير الذي مات يحلم به اخناتون. وظل هو وفياً للعهد ولأفكاره رافضاً كل العروض الأجنبية التي قدمت  لإنتاج الفيلم، لأنه أراد للفيلم أن يكون مصرياً خالصاً وصك المصرية هنا تحمله الدولة المنوط بها الوصل بين إنسان الماضى وإنسان الحاضر.

اترك رد

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.