الطريق الذي قطعه شهاب فخرى من الفلسفة إلى تاريخ المجارى والصرف الصحى بالقاهرة كما يحب أن يقدم نفسه، حكاية مشوقة لا بسبب طبيعة الموضوعات البحثية والأكاديمية التي عمل عليها، بل أيضاً تكشف وتوضح لنا كيف تعمل المؤسسات الأكاديمية من الداخل سواء في مصر أو الولايات المتحدة، وهى طريقة تطرح الكثير من التساؤلات حول الحرية الأكاديمية وطبيعة الدور المطلوب من الجامعات اتجاه المجتمع.
في عامه الثانى بالجامعة الأمريكية حدثت سلسلة من الحوادث التي تمس الحرية الأكاديمية كان شهاب فخرى طالب الفلسفة في 1998/1999 شاهداً عليه. الأزمة تخص د.سامية محرز أستاذة الأدب لكن لا يذكر شهاب بدقة الآن هل كان الأمر يتعلق برواية الهجرة إلى الشمال للطيب صالح أم الخبز الحافي لمحمد شكرى، لكن الأمر نتج عنه منع تدريس الرواية واختفائها من مكتبة الجامعة. في ذات الوقت شهد شهاب كيف تم التضييق على أستاذ فرنسي حتى غادر الجامعة بسبب إصراره على تدريس كتاب “محمد” لماكسيم ردنسون.
كان شهاب في أبرز الجامعات المصرية وقتها، لكن بدا أنه حتى داخل الحصن الأكاديمى الأمريكي لا مهرب من تدخلات الرقابة، والسعي الدؤوب للسلطة للمراقبة والسيطرة على البحث الأكاديمي فاختار السفر إلى أمريكا حيث أكمل دراسته في مجال الفلسفة في جامعة “بنسلفانيا”
تخرج شهاب من جامعة بنسلفانيا في 2002، واتجه بعد ذلك لجامعة “The New School for Social Research” وهى جامعة برز اسمها بقوة في منتصف القرن العشرين، حينما انتقل معظم الفلاسفة والمفكرين اليهود الذين تعرضوا للاضطهاد من أوروبا للتدريس فيها وأبرزهم شتراوس وحنا أرندت. الحصول على درجة الماجستير هناك يتطلب الاختيار بين مسارين أما العمل على تحضير مقال في موضوع محدد لا يتجاوز الـ60 صفحة على العكس المتبع في الجامعات المصرية حيث تكون المطلوب ضعف هذا الرقم. أو القراءة في موضوع محدد اختار وقتها شهاب الفترة من ديكارت لروسو ودخول اختبار متعدد الأسئلة والمراحل وهو ما اختاره شهاب. بعد ذلك أتت مرحلة الدكتوراة وقتها تنازعت فكرتين شهاب الأولى محاولة لطرح وجهة نظر هيجيلية في النقاش بين أفكار شتراوس وفوكو، والثانية هو التأثير الفلسفي للعلماء العرب في مجال العلوم الطبيعية خصوصاً الفيزياء.\

***
وجد شهاب دفعاً من أساتذة الجامعة لموضوع العلماء العرب. كانت هذه سنوات الأسئلة “2004/2005” وكان هناك تحول نوعى يحدث في الأكاديمية الغريبة يوضحه شهاب قائلاً:
-كانت هذه فترة ما بعد غزو العراق وفي أمريكا وأوروبا أصبح هناك اهتمام متزايد وجهات مختلفة لديها طلب بأى دراسات أو تخصصات لها علاقة بالمنطقة العربية والشرق الأوسط، أذكر في هذه الفترة أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية للمرة الأولى عن حاجاتها لخريجى “أنثروبولوجيا” للعمل في الوزارة وبمرتبات ضخمة.
الأمريكان كانوا يتورطون أكثر فأكثر في المنطقة بسبب الحرب وكان لديهم الكثير من الأسئلة. أيضاً في ذات الفترة تزايد نفوذ رأس المال العربي وتحديداً الخليجي في الجامعات الغربية وتمويل أقسام كاملة. لكن كانت العقبة في استفادة الإدارة الأمريكية من خريجى أقسام الشرق الأوسط أنه منذ السبعينات ومع ظهور أفكار إدوارد سعيد ترسخت تقاليد يسارية في أقسام الشرق الأوسط، لم يكن هناك تماشي بين توجهات الإدارة والمناخ العام في الأكاديمية الأمريكية وخصوصاً أقسام دراسات الشرق الأوسط، الطلبة الذين كانوا يدرسون اللغة العربية أو المجتمعات العربية من أجل الالتحاق بالإدارة الحكومية كانوا يتعرضون للنبذ داخل الكليات على سبيل المثال.
-كيف أثر كل هذا المناخ على اختياراتك؟
كنت منحازاً للعمل على مشروع يتتبع الجدل بين “شتراوس وفوكو” لكن من وجهة نظر هيجلية بعض الشيء. لكن بسبب كونى عربياً، فقد وجدت دفعاً من قبل الأساتذة للعمل على موضوع العلماء العرب. ونتيجة لهذا فقدت اهتمامي باستكمال العمل على الفلسفة، وانتقلت إلى جامعة كولومبيا للتخصص في مجال آخر وهو التاريخ.
اهتممت منذ البداية بفترة الاحتلال البريطاني لمصر، وكان هذا غريباً فبينما نجد عدد كبير من الدراسات التاريخية حول فترة محمد على وحول التاريخ المصري بعد ثورة 1919، لكن الفترة التي تمثل المرحلة الأولى من الاحتلال البريطاني (1883-1920) أقل فترة نجد أن الدراسات التاريخية تناولتها وكانت هذه الفترة هي مجال اهتمامى الأول، ليس بسبب قلة الدراسات التي تناولتها، بل أيضاً بسبب كونها الفترة التي شهدت تشكل الأفكار الكبرى، بداية من الثورات العلمية وحتى الأفكار السياسية والاجتماعية.
-بماذا اخترت أن تبدأ إذن عن تلك الفترة؟
البداية كانت من الثورة العرابية، كانت موضوع رسالة الماجستير وحاولت فيه التركيز على الرواية الإنجليزية والأسباب التي دفعتهم للإقدام على خطوة التدخل في مصر واحتلالها.
الثورة العرابية كانت مسألة داخلية بامتياز. كان هناك خلاف بين الخديوى ومجلس النواب يتعلق بضرائب فرضها الخديوى على كبار ملاك الأراضي الزراعية، وهذا لأن مصر كانت واقعة تحت ضغط الدين الخارجي وكان الخديوى يحتاج لتسديد تلك الديون. أيضاً كانت الدولة المصرية مقسمة عرقيا، يسيطر على المناصب العليا فيها الطوائف العثمانية المختلفة.
صحيح أن عرابي في لحظة انفعال هدد بإغلاق قناة السويس لكن لم يكن هذا ما استفز الانجليزى ودفعهم للتدخل، بل ببساطة لأن الانجليز ظنوا أن ثورة عرابي إذا نجحت وأصبح هناك مجلس نواب منتخب ذو سلطة تشريعية فلن تدفع مصر الضرائب المدينة بها للشركات والبنوك الإنجليزية. طبعاً إلى جانب التخوف الإنجليزي من تدخل الفرنسيين ودخولهم قبلهم إلى مصر.
الغريب في المقابل أن الرواية المصرية تكسب الثورة العرابية طابع مغاير بتصويرها ثورة من أجل الحرية أو صعود القومية، وهذا كلام بعيد تماماً عن الحقيقة الفلاحون على سبيل المثال مشاركتهم في الثورة لم تكن موجودة أو منظمة بل وللدقة لم تكن أوضاع الفلاحين لتتأثر بالخلاف بين الخديوى ومجلس النواب ولا حتى بالضرائب التي سعى لفرضها على ملاك الأراضي. ثورة عرابي كانت ثورة البرجوازية المصرية، وحاولت اكسابها أبعاداً أسطورياً. حكاية موقف عرابي حينما وقف أمام الخديوى وقال له خلقنا الله أحراراً ولن نستبعد بعد اليوم. هذه حكاية لم أعثر على أي مصدر لها إلا لدى الرافعى، وحتى الرافعى يرويها دون أي مصدر.
-في الماجستير وحتى في رسالة الدكتوراه التي تعمل عليها الآن تقدم رواية أن الانجليز كانوا الأكثر اهتماما بالفلاحين، كيف يستقيم هذا مع كونهم قوة احتلال ومشروع استعماري؟
-اللورد كرومر قالها صراحة في أكثر من موضع في خطابته وهو أنه يبنى نظام قائم على رضا الفلاحين وملاك الأراضي. لذلك كان من أول القرارات التي اتخذها الانجليز حينما دخلوا إلى مصر أنهم وضعوا ضريبة ثابتة للأراضي بل وثبتوا هذه الضريبة لمدة ثلاثين عاماً.
إنجلترا كانت تنظر لمصر باعتبارها المعبر لمستعمرتها الأساسية في الهند، وإضافة زراعية لعائدتها لا أكثر من ذلك. لذلك فاهتمام الانجليز بالمدينة جاء في فترة متأخرة وبسبب ضغوط من الرأي العام البريطاني والأوروبي. بعد عام من دخول الانجليز لمصر ظهر وباء للكوليرا قضي على ثلاثة آلاف مواطن في القاهرة في ثلاث أسابيع. وكانت أمراض كالتيفود والكوليرا تظهر في دورات مستمرة وتحديداً في القاهرة التي كانت تحتاج إلى إعادة تخطيط وبناء، لأن الوضع الصحى بالقاهرة كان متدهوراً للغاية.
طالب الرأي العام الانجليز بالتدخل لإنقاذ الوضع لكن هذا الأمر تأخر كثيراً. لاحظ أيضاً أن مشاريع كالصرف الصحى هي مشاريع مكلفة جداً، وليس لديها عائد استثمارى. تكلفة انشاء شبكة الصرف الصحى في القاهرة تقارب تكلفة انشاء سد أسوان وقتها، لكن بينما ينتج مشروع السد عوائد اقتصادية ويكون له آثار إيجابية على توسيع الرقعة الزراعية، فشبكة الصرف الصحى لا يوجد هناك اقتصادى يمكن قياسه سينتج عنها.
إذا نظرت في تاريخ الفترة من (1882-1990) ستجد أن معظم الأموال التي ضخها الانجليز في مصر كانت موجهه نحو الإصلاح الزراعى من شق الترع والمصارف إلى القناطر وبناء سد أسوان، لكن مع ازدياد المشكلة الصحية في المدن خصوصاً القاهرة، فقد فرض الظرف عليهم التدخل في تخطيط المدينة.
-كيف جرت عملية إعادة تخطيط القاهرة لإنشاء شبكة الصرف الصحى إذن في هذه المرحلة؟
استعان الانجليز بمهندس مدنى بريطاني هو جيمس كاريكت، كان قد صمم شبكة الصرف الصحى في بمومبي بالهند، تتبعت أرشيف “كاريكت” الموجود في مصدرين الأول هو مجلة “معهد المهندسين المدنيين” في إنجلترا، ووجدت لديهم خرائط تفصيلية للقاهرة ودراسات ومقالات عن شبكات الصرف الصحي وكيفية القيام بعملية التخطيط للمشروع.
وصل “كاريكت” إلى مصر بعد ثالث وباء للكوليرا أصاب القاهرة عام 1905، واستغرقت المرحلة الأولى من رسم للخرائط ودراسة للمدينة ما يقرب الخمس سنوات. ما نقصده بالخرائط هنا ليس فقط خرائط للشوارع وأزقة المدينة. بل خرائط اجتماعية توضح توزيع الجغرافيا البشرية في المدينة ومستوياتها الاجتماعية. كان يجب على “كاريكت” أن يحدد المستوى الاجتماعى لكل منطقة في المدينة لأنه على هذا الأساس يتم تصميم الشبكة وحجم ومقاسات المواسير. فالمناطق الغنية والبرجوازية تستهلك الكثير من المياة وهذا يعنى حاجاتهم إلى شبكة صرف أوسع من تلك الموجودة في المناطق الفقيرة.
الخطأ الذي وقع فيه “كاريكت” أنه تعامل مع المدينة بشكل “استاتيكى” كأنها ديمغرافي بشرية ساكنة. “كاريكت” كان يضع تصميم لشبكة صرف صحى من المفترض أن تستمر لمدة 25 عاماً. هو وضع تخطيطاً يتضمن حسابات الزيادة السكانية لكنه لم يضع اعتبار تغير الجغرافيا الاجتماعية المدينة.
***
-لكن هل شهدت هذه الفترة تغيرات اجتماعية جديدة في المدينة تؤثر على تخطيطها؟
بالتأكيد وهذا هو ما أثار الاضطراب لدى الإدارة البريطانية. فكما سبق وذكرنا تعامل الانجليز مع مصر باعتبارها تتكون من فلاحين وملاك أراضي، لكن مع توسع الجهاز الإداري للدولة وتوسع المدينة. ظهرت طبقة جديدة هي طبقة “الأفندية”. كرومر في هذه الفترة لم يكن يعتبر الأفندية مصريين، ويعتبرهم ظاهرة شاذة في المجتمع المصري، لاحظ أيضاً أن هؤلاء الأفندية هما طبقة المتعلمين والمثقفين الذين أخذوا يكتبون المقالات ويهاجمون الاحتلال وكرومر.
ظهور الأفندية غير الكثير من الجغرافيا الاجتماعية للمدينة، بل ربما يكون أحد الأسباب التي من أجلها وبعد سنتين من إتمام المشروع جرت تعديلات كبيرة على الشبكة.
-ماهى المشاكل الآخرى التي واجهت هذا المشروع؟
حينما تم اتخاذ القرار، لم تجر أي مناقصات بل تم تكليف المشروع بالأمر المباشر لشركة انجليزية بعينها، بالتالى المشروع كله كان في مصلحة الإنجليز لذا فقد قابله المصريون بالحذر وأحياناً بالرفض والممانعة.
المشروع تطلب الكثير من أعمال الإزالة، شارع بورسعيد تم تغييره بالكامل. وزارة الأوقاف والمساجد والجوامع رفضوا السماح للانجليز بالدخول إلى الجوامع لعمل المقايسات. وجرى صراع بين الجهتين حيث تمسكت الجوامع بالشكل التقليدي “للميضة” ورفضوا التخلي عنها، بينما أصرت الشركة على هدم الميضة واستبدالها بحمامات عصرية.
الطريف أن أعقد مشكلة واجهت الانجليز عند تنفيذ المشروع كانت إشاعة ليس لها أي مصدر من الصحة شغلت الرأي العام بشكل كبير وصنعت معارضة قوية للمشروع. هي أن الحفر في باطن الأرض سوف يخرج الكوليرا والتيفود المدفون في باطنها، وحينما تعود إلى الجرائد والمجلات في تلك الفترة تجد أراء لكتاب وصحفيين تعارض المشروع على هذا الأساس الأمر الذي كلف الشركة القيام بحملات دعاية ضد هذه الإشاعات والتأكيد على أن الحفر لن يصل لمدى عميق.
–تركز دراستك على تاريخ انشاء شبكة الصرف الصحى في القاهرة، لكن ماذا عن بقية المدن الآخرى كالإسكندرية على سبيل المثال كيف جرى الأمر هنا؟
إسكندرية وضع مختلف. الإسكندرية كان لديها مجلس محلى منتخب هو المسئول عن المدينة. لذا فقرار شبكة الصرف الصحى في الإسكندرية خرج من المجلس المحلى وتم تنفيذ المشروع تحت إشراف المجلس المحلى، والمجتمع السكندرى الذي كان فاعلاً في دفع المشروع.
مشروع الإسكندرية كان أفضل كثيراً من مشروع شبكة الصرف الصحى في القاهرة، فبينما احتاجت الأخير إلى إعادة تهيئة وصيانة وتغيرات جذرية بعد سنوات من اتمامها استمر مشروع شبكة الصرف الصحى بالإسكندرية.
-تعمل الآن على الانتهاء من الفصول الأخيرة من الرواية واستكمال الإطلاع على ما ينقصك من أرشيف المشروع، كيف وجدت التعامل مع دار الوثائق؟
في العموم فدار الوثائق مكان منظم جداً في رأى، هناك طبعاً عدد من القوانين واللوائح الداخلية التي تنظم العمل في المكان لا استطيع أن أحدد الغرض منها، لكنها من خلال حبرتى تضع عوائق على البحث التاريخى. على سبيل المثال لا يمكننك تصوير أكثر من مائة ورقة، وهو رقم ضئيل جدا. أحياناً وثيقة واحدة يتجاوز عدد صفحاتها المائة. لا أفهم الغرض من هذا القرار. في الأرشيف البريطاني على سبيل المثال هناك كاميرا موضوعة يمكنك استخدامها لتصوير أي عدد من الصفحات.
هناك قرار آخرى لا أفهم السبب منه الأرشيف المصري مقسم إلى وحدات أرشيفية على ما أذكر يبلغ عددها حوالى أربعين وحدة، لكنك كباحث لا يمكنك الإطلاع على أكثر من 6وحدات في الوقت ذاته، في حين أنها حينما تعمل على موضوع بسيط مثل شبكة الصرف الصحى فسوف تجد ملفات متعلقة في عشرات الوحدات والهيئات الآخرى.
هناك أيضاً المسألة الأمنية. شخصياً لم أطلب ملف أو وثيقة ورفضوا إعطائها لي، لكن أحد زملائنا والذي يعمل على تاريخ شبكات الرى والزراعة حينما قدم طلبه للأمن ترافق هذا مع الضجة الإعلامية حول مشروع النيل، ولسبب ما فقد قام الضابط المكلف برفض تصريحه. موضوع تحميل ضباط من الداخلية مسئولية إعطاء تصاريح الإطلاع على الوثائق أمر في رأى يحتاج إلى المراجعة. أذكر أننى حينما بدأت إجراءات إستخراج التصريح وحتى ابعد نفسي عن أي شبهات كتبت في الورق المقدم كلام من نوعية أن هذا البحث يتتبع تاريخ الوطنية. طبعاً هناك ثغرات كبيرة في الأرشيف المصري أرشيف وزارة الداخلية مثلاً يقل بشكل تدريجى بداية من الثلاثينات حتى يختفي تماماً بعد 1952، أيضاً ملفات وأرشيف وزارة الخارجية من أقل الوحدات الأرشيفية التي يمكن أن تجد فيها أي وثائق.