نشرت في مجلة هيباتيا عام 2014
نشرت جريدة الأخبار يوم 12 أغسطس 1976 خبراً في باب “أخبار الناس” يقول أن منظمة الشباب بالاتحاد الاشتراكي توزع منشورات على أعضائها تهاجم فيها أحمد عدوية وتتهمه بالإسفاف. أبناء منظمة الشباب في الاتحاد الاشتراكي هم بعد ذلك أبناء النوادي الناصرية في الثمانيات وهم أولاد مؤسسي الاتحاد الاشتراكي في الستينات في سلسلة والدها مات بداء النقرس ووالداتها مشير ميت أو مات منتحراً بعد ما عرف بنكسة يوليو.
الهجوم على أحمد عدوية كان هو الظاهرة الصحفية والإعلامية الأبرز طوال عقد السبعينات والثمانيات، وهو هجوم مستمر رغم أن عدوية كان ممنوعاً من الظهور في الإذاعة أو التلفزيون، ورغم هذا فلطالما هاجم الكتاب والصحفيين من أبناء الاتحاد الاشتراكي عدوية وطالبوا بمنعه من بيع الشرائط، هم ذات الكتاب الذين سيطروا في هذا الزمن ويسيطرون في زماننا على الصحافة والاعلام ولطالما طالبواً بمنع عدوية من الغناء في الكباريهات وصالات الفنادق، ووصل الأمر في 1985 إلي قبض رجال شرطة الآداب على عدوية بتهمة غناء كلمات مخلة بالآداب.

يفترض البعض خصوصاً في أوروبا والدول المتقدمة أن الصحفيين والكتاب والعاملين في مجال المهن الإبداعية هم خط الدفاع الأول عن حرية الرأي والتعبير، وفي الغالب هم كذلك ما عدا في مصر حيث يكون هؤلاء الاعلاميون هم أول من يطلب فرض الرقابة على الإعلام ومحاصرته وإيقاف إعلاميين زملاء لهم عن العمل. تكشف حكاية عدوية وصراعه المرير من أجل مساحة للغناء في مقابل هذه النخبة السياسية والثقافية، كيف أن مثل هذه السلوكيات كالفرح بإيقاف برنامج باسم يوسف أو يسري فودة، أو حتي قرار نقيب الصحفيين الأخير بمنع علاء عبدالفتاح من دخول النقابة بسبب آراء وكلمات لم تعجبه.
مثل هذه الممارسات لا ترتبط فقط بالظرف السياسي، وليست وسيلة قذرة يستخدمها بعضهم في الخلافات السياسية. بل هي جزء من تركيبة شريحة عريضة من إعلامي وصحفيي مصر، وهى نتيجة لعملية تخليق للضباع البشرية المشوهه بدأت مع تأميم ثورة يوليو للصحافة وبسط نفوذها على المجال العام والخاص.
** *
يتجسد وجود السلطة من خلال السيطرة على مجال الحواس الخمس، وتمارس نفوذها في هذا المجال من خلال خلق طبقة من الجنود الاوفياء يحملون درجة مثقف. يكتسبون قيمة وجودهم من حراستهم للفلكلور وسلطتهم المعنوية في تحديد ما هي الهوية وما هي ثقافتها، ما يقع داخلها وما يأتي من خارجها. مشروع زكريا الحجاوى وثروت عكاشة في الستينات كان تجسيد مباشر وواضح لهذه الاستراتيجية، حيث عمل الاثنان علي خلق قاعدة عريضة لما سيعرف بالتراث الشعبي، وتحويل المغنيين والفنانين الشعبيين إلي موظفين في الدولة. وبالتالي تصبح الدولة هي المحتكر للتراث والفلكلور، وحينما يظهر أحمد عدوية كصوت للمدينة (تربي وعاش دائماً في حى المعادى) يصبح من الصعب وضعه في جاليري الدولة كممثل لأى فلكلور منطقي. مثال واضح للخارج المنفلت تحق عليه اللعنة والحصار، ليصنع أسطورته الخاصة اعتماداً على التكنولوجيا الجديدة وقتها (شريط الكاسيت).
الآن وبينما تستعيد السلطة العسكرية نفوذها تعود مرة آخري للتمدد في هذا المجال. وتصبح لقاءات السيسي مع الإعلاميين والفنانين المختارين طقس شهري لخلق ضباع جديدة يعيدون أحياء أدوار الضباع القديمة ويساهمون في بناء مصر الجديدة.
أن يدافع أحد الضباع عن التقييد على زملاء صحفيين وإعلاميين له، أو فرض الرقابة على الآخرين تحت دعاوى محاربة الإرهاب، ليس مجرد موقف منحاز أو موالاة للسلطة. بل دفاع عن وجوده هو ذاته كجزء من هذه السلطة وأحد ضباعها. وفرض الرقابة هو وسيلته التي يهمش من خلالها أي خطاب آخر بحيث يسود خطابه، ويتحول فنه في حالة كونه فناناً إلي فنان معبر عن هوية الوطن كمرآة تعكس فقط تصورات السلطة عن ذاتها المتضخمة “اللى قد الدنيا”.
يظهر هذا بوضوح بالكيفية التي يتم بها الاحتفاء ببعض الضباع بعد رحيلهم ووفاتهم، نشاهد كيف في جنازات أحمد رجب أو مصطفي حسين تظهر كل فروع وتنوعات السلطة في مصر من مؤسسة الرئاسة والمؤسسات العسكرية وحتي المؤسسات المدنية، يرثون زميل حقيقي مخلص لهم، وأستاذ نتعلم من مسيرته.
** *
في شهر سبتمبر الماضي نشرت جريدة المصري اليوم قصيدة بعنوان “المجلس.. قصيدة مباشرة جداً” لعبد الرحمن الأبنودى، القصيدة المباشرة لا يكتفي فيها الشاعر بإعلان موقفه السياسي المنحاز للسيسي فقط، بل يمتد في هجاء طويل لجيل الشباب الضال ويدافع عن نفسه أمامهم بأن كلامهم على الانترنت تخاريف، أما هو فلوجوده مؤسس، لكن الأهم ما احتوته القصيدة من هجاء ضد التمويل الأجنبي، والصف الخامس في الوطن الذي يتم تمويله لنشره التخريف ضد محبوبه السيسي على الانترنت.
بعد أيام قليلة من نشر قصيدة الأبنودي، صدر التعديل الجديد في قانون العقوبات وملخصه عقوبة الحبس لأي فرد أو جماعة تتلقي أي تمويل لعمل أي شيء داخل الأراضي المصرية. في خطوة تستهدف بشكل واضح خنق المجتمع المدني ومحاصرة المنظمات خصوصاً الحقوقية لتضييق الخناق عليها. في الوقت ذاته فالسلطة التي تصدر مثل هذا القانون تعيش على التسول حرفياً لا مجازاً وفي ذات اليوم الذي صدر فيها هذا التعديل كان السيسي في نيويورك يسأل أين الأباتشي التي هي جزء من المعونة.
هل مثلاً كانت قصيدة الأبنودي هي ما أوحي للسلطة السياسية في مصر بإجراء هذا التعديل؟ أم أن الأبنودى -حاشا وماشا- تلقي توجيهات وخطوط عريضة لقصيدته السياسية المباشرة من رأس ما هناك على طريقة بيانات الاتحاد الاشتراكي التي كانت بعدها تظهر مقالات الكتاب المهاجمة لعدوية؟
يستريح البعض لاستخدام تعبيرات العمالة ووصف الضباع بالمخبرين. لكن الضباع بطبيعتها لا تعيش إلا على الجيفة لذلك فعلاقتها مع المفترسات ليست علاقة “تعريض” بل هي علاقة نفعية تصنع التكامل الضروري في الحلقة الغذائية. وبقليل من تهذيب المجاز والقياس بين ضباع الغابة والضباع “المتسابة” يمكننا فهم طبيعة العلاقة بين الابنودى والكتاب والفنانين والصحفيين مع السلطة والنظام الذي يتشكل حالياً.
بدون شعراء كالابنودى وإعلاميين كأحمد موسي وأخوته المدافعين عن تقييد حرية الرأي والتعبير تفقد السلطة صوتها ووجودها في المجال العام، وهم في هذا المجال ليسوا صوت للسلطة بل هم السلطة ذاتها. لهذا لا تندهش حينما يصب موسي غضبه في حلقات من برنامجه على قيادات في الداخلية لا بسبب تجاوزها سلطاتها في حق المواطنين بل بسبب تقصيرها بما يؤثر على مشروع تسيد الضباع والسلطة الجديدة.
** *
المسألة ليست قمع للأصوات المعارضة، بل تأكد أن هذه المجالات تحت سيطرة السلطة، احتواء المواطن في حضن السلطة. هيفاء وهبي في فيلم “حلاوة روح” أو برامج الرقص على قناة القاهرة والناس، ليست أصوات معارضة. كذلك عدوية لم يكن مشروع سياسي معارض. لكن ما يجب أن تشاهده أو تسمعه هو اختصاص الضباع، وظيفتهم أن يحددوا للدولة والمجتمع ما يجب وما لا يجب، ما هو فن راقي ومحترم، وما هو اسفاف ومبتذل.
بعد صنع معيار التقييم تلك يوزعون الغنائم على بعضهم البعض، ويضيف كل واحد لأسطورة الأخر ويدعمه، وأحمد موسي الذي بدأ مساره المهنى مراسلاً في وزارة الداخلية سيصبح العام القادم الإعلامي الكبير، وبعده الإعلامي القدير وحينها ستتوسع سلطته لتحديد ما هو الإعلام الوطنى الهادف وما هو الاعلام المسف. حتي يصبح بعمله الإعلام رمز ومعبر عن الهوية المصرية، مثلما أصبح مصطفي حسين رمزاً وطنياً وقبلها كان الحال مع صلاح جاهين.
يبدأ الضباع في الالتهام من الأطراف، ومن القضايا التي يعرفون أنها قد لا تلقي تأييد مجتمعي واسع. فيصبح عدوية هو مغنى الكباريهات والكباريهات أماكن الفسق والفجور، وعدوية مغنى الفسق والفجور. مثلما يصرح مساعد وزير الداخلية بأن الغرض من الرقابة على الانترنت هو محاربة ازدراء الأديان والشذوذ الجنسي والأخطار التي قد تهدد قيم المجتمع وثوابته.
الضباع تخلق المجتمع من خلال خلق هوية جمعية يتم مدحها والمبالغ في تعظيمها ليصبح الشعب المصري أعظم شعوب العالم، لكن الشعب المصري العظيم لا يحتوى على الاخوان ولا تجار الدين ولا الممولين ولا معارضي السيسي. شعب متخيل لا يوجد إلا في ذهن الضبع. بعد خلقه يتم وضع سمات لهوية هذه الشعب قيم ومبادئ. حينها يتم اختراع الأخلاق. ومن الخلاق تصاغ القوانين ثم ينصب الضبع المحكمة ويقف عليها قاضياً.
تسير الأمور على مايرام، ثم تظهر التكنولوجيا. وأينما وجدت السلطة وجدت الرقابة. وبالتكنولوجيا يوسع الناس والأفراد مدى حواسهم وقدرتهم على صنع عوالم خفية أحياناً أو تسير في مسارات بديلة خارج نطاق أوهام وعوالم الضباع.