يستشهد بسام الباروني في مقدمة الكتاب/ المشروع “خمسة عشر سبيلاً إلى تعدى باديو” بمقولة الفنان والكاتب الأوروغوانى لويس كامنتزر التى يعرف فيها “النظام” بأنه “يترسخ في إطار القوانين والمراسيم والبروتوكالات، أو يظهر ببساطة كتعسف السلطة”.
يصلح هذا التعريف لفتح الكثير من النقاشات في المجال السياسي حول معنى الشعار الشهير “الشعب يريد إسقاط النظام” وهل سقط النظام بالفعل؟
لكن في الكتاب الذي صدر مؤخراً عن منتدى الإسكندرية للفنون المعاصرة يأخذنا بسام البارونى من تعريف “كامنتزر” إلى طرح تساؤلات آخري حول نظام إنتاج الفن المعاصر وذلك بصحبة فيلسوف فرنسي وخمسة عشر فناناً عربياً ومقال نقدى لسهيل مالك.
من الصعب تصنيف كتاب “خمسة عشر سبيلاً إلى تعدى باديو” حيث يقع الكتاب بين مجالات عدة تبدأ من الفلسفة وتنتهي بالفن. يتكون الكتاب بشكل أساسي من مقدمة لبسام البارونى، ثم ترجمة عربية أعدها خالد حديد للأطروحات الخمسة عشر الفيلسوف الفرنسي آلان باديو عن الفن المعاصر مع ترجمة محاضرة باديو التى قدم فيها تلك الأطروحات للمرة الأولى عام 2003 ثم دراسة لسهيل مالك عن الأطروحات. بعد ذلك دعى بسام البارونى خمسة عشر فناناً ليقدم كل منهم عمل فنى يشتبك مع أطروحة أو أكثر من أطروحات باديو. ليخرج الكتاب مزيجاً بين مجالات متعددة ومحققاً لوصية باديو نفسه الذي يري أنه “من واجب الفلسفة أن تصوغ فكرها قدر الإمكان قريباً من موقف اللا-فلسفة”.
ابن سارتر ولاكان
حينما زار آلان باديو فلسطين عام 2009 قدم نفسه للجمهور العربي قائلاً: “ بداية، أنا ابن مستعمر أقام في المغرب لكنه سرعان ما عرف حقيقة الاستعمار وأهدافه اللاإنسانية وناضل ضده وابعد لفرنسا ثم ناضل ضد الاحتلال النازي لفرنسا، وكان من أصدقاء المهدي بن بركة. لذا فأنا من عائلة مناضلة، ولدت في المغرب وعشت فيها 5 سنوات. ساعدت الجزائريين في ثورتهم وأنا شاب ( لذا فأنا ارهابي ) .. درست الفلسفة في جامعة باريس واليوم ادرسها في سويسرا.”
هذا التعريف الموجز يصلح كمفتاح لفهم السيرة الذاتية لباديو المولود في الرباط بالمغرب عام 1937. لكن المشروع الفكرى والفلسفي لباديو يتسع إلى ما هو أبعد من المجال السياسي. ففي مراحل دراسته للفلسفة كان باديو موزعاً ما بين الصراع البارز وسط أعوام الستينات تحت تسمية “الوجودية” من جهة، و”البنيوية” من جهة آخري.
ورغم التعارض الظاهرى بين الاتجاهين إلا أن باديو يأخذ من الاتجاهين ما يصفه بأنه المهمة الأبرز للفلسفة وهى منح الشجاعة. فمن الوجودية تحتفظ فكر وأطروحات باديو بالحد الأدنى من البطولة الوجودية ومن البنيوية يتمسك باديو بأطروحات لاكان والذي رغم رؤيته المتشائمة والذاتية يراه باديو يحتفظ دائماً بشيء لا يقبل للانحلال كتمسكه بعبارة “لا تتنازل عن رغباتك”.
شكلت كتابات باديو منذ نهاية السبعينات وحتى اليوم ما صار يعرف بالتيار الفلسفي المعادى لما بعد الحداثة في قائمة تضم أسماء كأنتونيو نيجري و اجامبيون وسولافيك جيجك.
لذا فالفيلسوف الذي يكتب كتب بعناوين مثل “مفهوم النموذج” أو “نظرية الذات” لا يجد غضاضة في أن تمر سنوات طويلة دون أن يكتب فيها كتاباً فلسفياً وحداً أو يصدر كتاب في الهجاء السياسي مثل كتابه “معنى ساركوزى”. فالنشاط الفلسفي عند باديو على حد تصريحه في مقابله صحفية هو “سعى المرء لإعطاء شيء من الشجاعة للجميع. فحتى الفيلسوف الأكثر خيبةً وتخيباً منذور لهذا الغرض: إذ يمكن استبطان الخيبة ورفعها إلى مستوى المثال عند البعض”. ومن هناك يأتي انفتاح باديو بشكل خاص على المجالات الفنية المختلفة ومنها “الفن المعاصر”.
نظام الفن المعاصر
في محاضرته التى ألقاها للمرة الأولى بمركز الرسم في نيويورك عام 2003 وحملت عنوان “خمسة عشرة أطروحة عن الفن المعاصر”. يوضح باديو من الأطروحة الأولى حتى الأطروحة الثامنة الحدود والمعالم التى يتصف بها الفن الذي يمكن وصفه بأنه فن معاصر. ويشرح بوضوح صفاته العامة والبروتوكالات الراسخة التى يلتزم بها ليحصل على لقب “معاصر”.
من الأطروحة التاسعة وحتى الأطروحة الخامسة عشر يعرف ويحدد باديو ما يسميه “بالفن اللا-إمبيريالى”. وفي هذا التعريف يتكأ باديو على مفهوم الإمبراطورية لأنتونيو نيجري كنظام حاكم لواقعنا السياسي والاقتصادي، ويحاول باديو وضع مجموعة من القيم والأطروحات التى من خلالها يمكن للفن المعاصر أن يعمل بشكل حر خارج قواعد الإمبراطورية وأن يكون في موضع مُضَاد لقواعده أو على حد تعبيره في الأطروحة الثانية عشر “ينبغي للفن اللا-امبيرالى أن يكون متماسكاً كشرح حسابي، مفاجئاً ككمين يُنصب في جُنح الليل، وسامياً كنجمة”.
سبل لتعدى الإمبراطورية وباديو
في دراسته عن الأطروحات الخمسة عشر والتي تحمل عنوان “الأشكال بين الفن والكونية: شرح توجيهي لـ “الأطروحات الخمس عشرة عن الفن المعاصر” لألان باديو يوجز سهيل مالك في المقدمة رؤية باديو قائلاً: “يهبط الفيلسوف علينا من السماء –أو من باريس، أو مايو 1968، كل ذلك سواء لدى هؤلاء- ويُخبرنا بالتالى:
-الفن يكون حقيقياً عندما يُنتج ذاتية لا متناهية عبر مجال الحواس.
-الإمبراطورية هى السيطرة على ماهية وكيفية العالم، على كل ما هو ممكن، من خلال النظام الرأسمالى وسلطة الدولة.
-يمكن للفن أن يتحدى الإمبراطورية، أو حتى أن يكسر نفوذها، حين يكون معنياً بالحقيقة (أو، في صورة معاكسة، الفن المعاصر يخضع للإمبراطورية”.
مثلما هناك إغراء للوقوع تحت سيطرة الإمبراطورية فهناك إغراء آخر في الوقوع تحت أفكار وأطروحات باديو. ومن هنا تأتى أهمية ذلك الكتاب/ المشروع الفنى. فلا يقدم منتدى الإسكندرية للفنون أطروحات باديو بصفتها مانفيستو أو جهد تنويري يسقط علينا من أعلى بل يفتح المجال أمام خمسة عشر فناناً من أجيال مختلفة للاشتباك مع أطروحات باديو ومعارضتها في بعض الحالات.
لذا فقراءة الكتاب والإطلاع على أعمال الفنانين المشاركين في المشروع هى دعوة لإعادة التفكير في مكانة الفن الآن في ظل التغيرات والتحولات التى تشهدها الإمبراطورية والتغييرات الشكلية التى يمر بها “النظام” الضابط للمجال السياسي والاجتماعى في مصر.
لذا نشاهد في الكتاب الفنان محمد علام ينشر حواراً متخيلاً على صفحته على الفيسبوك بينه وبين آلان باديو حول أطروحته الخامسة عشر. ونفس الأسلوب تتبعه عريب طوقان حيث تقدم عملها “ماركسية على عشاء تلفزيونى” بحوار تخيلي مع باديو، أما منى مرزوق في عملها “حاملات اللعنة” تقف منى في المسافة الفاصلة بين صراع الإمبراطورية والفن، حيث داخل الصراع على حد تعبير منى تصنع أشياء مثير للاهتمام”.
معظم الأعمال أتت محاولة الاشتباك مع باديو بشكل أو آخر، لكن في المنتصف يقف عمل عادل السيوى بشكل ما من أطروحات باديو ومن اليقين الدائم لمصاحب للتعريفات “الفن هو..” أو “الفن ليس” في بورتريه عصام محفوظ حيث الصورة معكوسة لحلاق يقص شعره أحدهم. إلى جانب مشاركات لكل من؛ محمد عبد الكريم، دعاء على، حمدى عطية، بسام البارونى، حازم المستكاوى، محمود خالد، حسن خان، باسم مجدى، ستانس، أكرم زعتري، طارق زكن.
ننشر هنا أطروحات باديو الخمسة عشر بترجمة خالد حديد البديعة والدقيقة آملين. لا تقديماً فقط لباديو وأطروحاته بل احتفاء بتجربة نشر متميز تمثل إضافة نوعية للمكتبة العربية.
———————— —
نشرت في أخبار الأدب في 2012