السنيورة

نشرت القضة في مجموعة لغز المهرجان المشطور التى نشرت مؤخراً عن دار ميريت للنشر والتوزيع

كنتُ شغوفًا بكُسها، كشغفي بالانترنت. أو ربما كنتُ معلقًا بين الاثنين، ورأسي في المنتصف.

أقول رأسي لا قلبي لأن هذه ليست قصة عاطفية أو إيروتيكية أو بورنوجرافية، لذلك لا أريد أن أجنح للمبالغات. بالطبع لديّ شغف عام بالكُس، لكن كُسها بشكل خاص، كان شغفي الأهم.  راقبتُه طوال سنوات علاقتنا عن كثب وملاحظة، فكرتُ أكثر من مرة أن أقوم بتصويره، لكن خفتُ من ردة فعلها، فاحتفظتُ بالرغبة سرية مكبوتة كرغبات أخرى، حتى انتهى الأمر بالخسارة التامة.

لايزال ماثلاً في ذهني، والفضل يعود إلى الأيام والليالي، التي قضيتها مفتونًا بتقلباته وتحولاته المختلفة. عرفتُه نائمًا مضموم الشفتين، وسجلتُ بدقة كيف ينفتح كشمس تنبثق من خلف الجبال على شاطيء نويبع.

رأيتُ كيف يُضخ الدم إلى شفتي كُسها عند الاستثارة فتتمددان ويتحولان من اللون الزهري إلى الوردي، ثم إلى الأحمر. شاهدتُ آثار المداعبة بالأصابع عليه، وباللسان، وكيف يتحول إلى عاصفة شمسية ذات لون أكثر اشتعالًا عن بقية الكرة الشمسية الصغيرة أثناء وبعد النيك. كان تشممي لرائحته أمرًا محببًا للنفس، وكانت الرائحة تتبدل على حسب مزاجها ومزاجه. أحيانًا حينما كنت استيقظ قبلها كنت أهرع إلى دورة المياه، أفرّش أسناني برائحة الفلوريد وأعود لأتسلل بين فخذيها لتكون رائحته أول ما أشمه. تذوقته في كل الأوضاع، وتابعتُ تغير طعمه مع كل درجة ترتفع فيها نحو الإثارة، وشجرة السعادة تتدلى علينا كما أوراق الجوافة. لو غميتُ عيني وتذوقته بين سبعة أكساس مختلفة لعرفته بطرف لساني، شيء ما صار مرتبطًا بينه وبين بقية حواسي.

لم يكن كُسها هو المثير لجنوني فقط، بل كل فتحاتها، كثيرًا ما كنتُ أطلب منها أن ترقد على بطنها. اتصنع إجراء نوع من المساج لها، وأتعجل النزول بيدي إلى أسفل، أوسّع بين ردفيها وأبدأ في تشممهما وتمشية لساني بينهما. أتخيل ثبات المشهد والزمن لساعات طويلة تمتد إلى أيام وصوت جريس سليك يأتي من الخلفية ينساب متغلغلًا كنفس هادئ من الحشيش يأكل الدماغ بطيئًا، ها أنت تذوب والأرنب الأبيض ينتظرك على مدخل الحفرة، تتذكر حارس البناية الآن، كيف كانت البداية إذن؟

في أحد الكوابيس كنتُ واقفًا متجمدًا على ضفة النهر بينما مجموعة ضخمة من الكلاب تنبح بوحشية وهي تقترب مني، ولم يكن الخوف من الكلاب بقدر ما كان المأزق هو الجسد المتخشب، الذي فقد القدرة على الحركة دفعة واحدة. ركب العناد بعد ذلك ودلدل رجليه. كان هناك القليل من الصراخ والكثير من الدموع، وانفطر القلب أكثر من مرة، بدا كما لو أن السعادة تتبدد. كنا على ما يبدو قد شربنا سعادة بعضنا البعض.

انقطعت علاقتنا لفترة عملتُ فيها كمسئول مبيعات في إحدى شركات خدمات المحمول. اشتريتُ سيارة من البنك وتفرغتُ لحياة جديدة ناجحة وتعرفتُ على شبكات اجتماعية جديدة وتعلمتُ الرقص وأصبتُ في حادث سيارة، وحينما استيقظتُ في المستشفى بكسر في الذراع الأيسر وخدوش في الوجه، قررتُ أننى لا أريد هذا. وفي تلك الليلة حلمتُ بأنني أغطس في مياه البحر الأحمر وفقدتُ الأكسجين ولم يكن من مصدر للتنفس أمامي سوى كُسها فهرعتُ نحوها لالتقاط أنفاسي. استيقظتُ من الكابوس شاعرًا بالبرد، رغم أننا كنا في الصيف. لففتُ سيجارة حشيش، ثم اتصلتُ بها وقلتُ:”هل فكرتي في أن تطبخي الحشيش بنفسك؟“.

قالت إنها أتت بدافع الفضول، ابتسمتْ وجلسنا على طاولة صغيرة، فككتُ ورقة بانجو ناشف أحضرتها، وبدأتُ في تنقيته بصبر، ثم أحضرتُ وعاء بلاستيك، وضعتُ قطعة قماش بلاستيك فوق الوعاء وأحضرتُ مصفاة شاي، بدأتُ بفرك أوراق البانجو في المصفاة وهى تدخن سيجارة وتحتسي قهوتها. كان الكلام عالقًا في الغرفة، تقطعه هي بعبارات تستحثني على الكلام، كنتُ خائفًا من جملة خاطئة تفسد المشهد أو تجعل الوقت يمضي منتهيًا أسرع مما أردتُ. صفيتُ الأوراق المفروكة في المصفاة وتحتها قطعة الشاش مشدودة فوق الوعاء، وضعتُ ما تبقي في المصفاة جانبًا وبدأتُ في دعك ما سقط من المصفاة على قطعة الشاش.

وإيه كمان؟، سألتني وهي تستحثني على التحدث أكثر، لكن الهواء كان في حنجرتي ضئيلًا وروحي منقبضة في قلبي.

بدأتُ في شرح الخطوات التي أقوم بها لها، أوضحتُ أن الغرض الآن هو تنقيه البانجو من الشوائب حتى نصل لزهرة الزهرة. أزحتُ قطعة القماش، كانت البودرة الخضراء مترسبة في قاع الوعاء البلاستيكى. أحضرتُ الحنة، وأنا أقول: “في العادة يجعلون نسبة الحنة إلى البانجو 2:1، لكننا سنحاول جعلها 3:1 “.

قمتُ بتصفية الحنة بنفس الطريقة، ثم خلطتُ البانجو مع الحنة وأعدتُ تصفيتهما مرة أخرى.

وبعدين.. وإيه كمان؟، مرة أخرى طرحتْ السؤال.

في سينا مثلا مش بيحطوا حنة، علشان كدا بيطلع لونه أخضر أو مصفر فاتح، كمان في سينا مش بيحطوا عسل أسود. في المغرب ولبنان بيجففوا الورق ويكبسوه، الزرعة هناك فيها الراتنج أعلى ومش بيحتاج إضافات صمغية“.

قمتُ من على الطاولة وعدتُ وفي يدي وعاء عسل أسود، أكملتُ وأنا أشرح لها: “معظم الطبخات اللي في مصر بالإضافة للكيميا والبنج، مش بيحطوا عسل أسود وبيفضلوا اللبان الدكر. احنا بنحتاج العسل علشان نعجن الحنة مع الحشيش وتطلع الحتة متماسكة. بدون العسل أو اللبان الدكر عمر ما حتة الحشيش هتطلع متماسكة معاك ولا هتعرفي تفرديها وتعملي منها دبوس لو عايزة“.

وانت معندكش لبان دكر؟

اللبان الدكر ريحته بتبقى ظاهرة أوي، وبيخلى حتة الحشيش حامية وبتضرب في النافوخ على طول، وكمان لو لفيتها في سيجارة هتطلع معاك روكيتس“.

ابتسمتُ وأشرتُ إلى حرق صغير في التيشيرت الذي ترتديه، وأكملتُ: “واحنا مش عايزين روكيتستانى يا آ كوكو، مش عايزين ألم ولا وجع أكثر من الموجود“.

تكونت في قاع الوعاء البلاستيكي ذي اللون البرتقالي عجينة طرية، تناولت موس حلاقة من على الطاولة، وأخذتُ أجمع به العجينة من قاع الوعاء، ثو وضعتها على ورق سلوفان  وأخذت أُشكلها، أغلقتُ السولفان عليها بحرص، ثم قطعتُ ورقة فويلفضية لامعة ولففتها حول السولفان. نظرتُ لوجهها، كانت أشعة الشمس القادمة من نافذة البلكونة تنتشر في الصالة وتنير وجهها فيظهر صافيًا، شعرتُ برغبة جارفة في تقبيل شفتيها.

ابتسمتْ وقالت:

-“ها.. وبعدين؟

ناولتها ورقة الفويل، وأنا أجاوبها:

-“تعرفي تحطي دي في الفرن، على نار هادية..”

تناولتها واتجهتْ إلى المطبخ. ظللت جالسًا مكاني أحدق في الكرسي الفارغ الذي غادرتْه. تذكرتُ حلمًا رأيتني فيه معلقًا في مطار أجنبي مع حقائب ثقيلة في مدينة لا أعرفها، في انتظار طائرة ستأتى غدًا، ثم تحضر هي بسيارة حمراء موديل الثمانينات. أتاني صوتها:

–        أنت بتولع الفرن بإيه؟

دخلتُ إلى المطبخ. كانتْ منحنية تحاول التفاهم مع الفرن، تقدمتُ نحوها واحتضنتها من الخلف.

قررنا المحافظة على الأمر كسر صغير، على ألا يغير من الوضع القائم، ما هو الوضع القائم؟ كنتُ أغطس في البحر الأحمر حينما انقطع حبل الأكسجين فجأة.

طلبتْ هي في المرة الثانية أن تقوم بالعملية بنفسها، بدأتْ في القراءة عن طرق التصنيع المختلفة والأشكال، التي يتخذها الحشيش وعمليات معالجات النباتات والحشائش. في البداية كنا نقوم بتدخين ما نطبخه سويًا.

ثم ذات مرة عرضتْ عليّ عرضًا لا أستطيع رفضه. كنّا في انتظار تسوية عجينة الحشيش في الفرن حينما قالتْ كمن يقص حكاية عن زيارة والدته: “أنا امبارح رحت عملت ليزر شيلت كل الشعر اللي هنا، وأشارتْ إلى ما بين فخذيها.

أثناء علاقتنا كانت تفضل قص الشعر فقط، ولم أكن قد رأيته بدون حتى الزغب الخفيف المحيط به من قبل. كأنما عرفتْ أين سرحتُ بخيالي، باغتتني بالعرض:

أنا بفكر نبيع. مش دا انتاجنا الخاص“. عرضتْ الأمر بصيغة شراكة تجارية سرية، أساسها الصداقة والمنفعة والاستمتاع بمتعة الطبخ، التي تحولتْ معها إلى طقوس هرمونية معقدة. اختتمتْ العرض بعبارتها، التي تؤكد بها كل اتفاقنا:

–        لكن هذا لن يغير من وضعنا القائم.

كانتْ تختفي لأسابيع لا ترد فيها على اتصالاتي، ولا تحكي لي عما تفعله، وحينما كنّا نلتقي صدفة في مكان عام تصافحني مادة يدها بيننا لتحرمني حتى من قبلة الصداقة أمام من يعرفونا، بل ذات مرة كانت تبيع إلى أحدهم صباع حشيشمما طبخناه معًا وتحكي أسطورة عن الديلر الشبح، الذى تتعامل معه ولديه أنواع متعددة من الاستفات، وأنا ملتزم الصمت، بل وأتصنع الاندهاش.

رسمتْ في البداية أسطورة الشبح، ثم اعترفتْ لدوائر من المقربين بأنها من تطبخ الحشيش ولديها خلطتها الخاصة، عند تلك النقطة بدأتْ في استخدام مكبس معدنى طلبتْ نقش كلمة Siniora عليه. كانتْ تكبس به العجينة، وبدأتْ أسطورة السنيورة في التشكل.  

في الخارج عرفت باسم سنيورة الحشيش. أما بيتي، الذي كان مقر الطبخة فقد تحول إلى معبد تتجلى فيه كإلهة من شوارع المدينة. تنفذ الطلب الوحيد، الذي اشترطتُه لحظة إغلاق الباب خلفها، تخلع الجزء الأسفل من ملابسها. ثم تجلس على الكنبة، أو على الأرض – لم تفضل أبدًا الطاولة الصغيرةتفتح ساقيها وتبدأ في إعداد الطبخة. أظل حولها أدخن أو اختار الموسيقي وعيوني معلقة فقط بكُسها المنتوف الخالي من الشعر، مضيئًا كشمس صغيرة. “الوضع على ما هو عليههش جدًا وقابل للانكسار وردود الأفعال المدفوعة بتفاصيل الماضي والخسائر السابقة. أحيانًا كنتُ أظن أن الوضع على ما هو عليهليس حقيقيًا مائة في المائة. ربما هو وهم أو بنته تخيلات ولًّدَها الفقد والوحشة، وحتى لا أفقد لذة اللحظة، لا أقترب أو أحاول لمسها. أكتفي فقط بقواعد الشراكة السرية التي فرضتها، ونسبتها الأكبر في حصة ما هو مباع.

عرفتُ أنها لم تعد تذهبْ إلى العمل بانتظام وتفكر في تركه وتأسيس مشروعها الخاص، لكنها لم تفصح لي ما هو. بدأتْ في تحسين مستوى جودة المنتجات التي تقدمها ورفع سعرها، وخلق تمايز وأسماء لبلاطات الحشيش التي تنتجها، استغللتُ البلكونة وحجرة المكتب وبدأتُ في زراعة النباتات بنفسي. قادتنى توجيهاتها حول كيفية الرعاية، كلما كانت الأوراق طازجة يساهم هذا في زيادة جودة الحشيش في النهاية، كما أن معالجة الأوراق الطازجة في الخلاط والكبس يجعلها قادرة على استخراج جرامات صغيرة من زيت الحشيش تبيعه بأسعار أعلى.

كانتْ تكبر وتتطور، حياة جديدة تنفتح أمامها، أو بالأحرى ديانة جديدة تشرق على الإنسانية من المعبد، الذي نصبته في الشقة لكُسها المنتوف. وكنتُ أنا العجوز، الذي يبحث عن خرافة دينية يؤمن بها في نهاية حياته لتمنحه قدرًا من الطمأنينة.

ثم اختفتْ.

لم يصلنى رد منها إلا بعدها بثلاثة شهور، وكانت هذه أطول مرة تغيب عن المعبد منذ بدأنا شراكتنا. كانت الرسالة مختصرة وحاسمة. لا داع لأن نلتقي مرة أخرى، نحن نأكل أرواح بعضنا البعض“.

حاولتُ العودة إلى ما كنتُ فلم أعرف ما هو. فقررتُ استكشاف الحاضر، كان العالم قد تغير تمامًا من حولي. بدأتُ في الخروج واستعادة العلاقات القديمة واكتساب خبرات وآلام جديدة، لكن في الوقت نفسه حافظتُ على رعاية النباتات. لم أطبخ الحشيش مرة أخرى. بدأتُ أسمع في الدوائر المقربة عن نوع جديد من المخدرات يحمل اسم السنيورة“. كان الانتشار كبيرًا ورغم أن الشكل والرائحة مشابهين للحشيش إلا أن التأثير كان مختلفًا.

ناره هادئة، لا يسبب أي حرقان أو آلام في الحلق حتى مع شربه بطريقة الخابور السكندري أو الدبوس. كما تميز السنيورةبكثافة زيته ورائحته النفاذة التي تعلق باليد، كان يتسلل ببطء، وإلى جانب تأثيرات الحشيش العادية، يسبب حالة من البهجة والسعادة وفيضان في المشاعر غريب من نوعه، كأنما يطلق كل ما هو مكبوت ويجعل كل الماضي ضحكة، ينزع الألم عن الحاضر، ويضفي ضحكة بين الأصدقاء، وقبلات وحبًا طاهرًا سعيدًا على الجميع.

جربته أول مرة واندهشتُ من تأثيره، فاشتريتُ قطعة منه وأحضرتها للمنزل. حاولتُ استعادة كل تفاصيل طريقتها، كانت لديها إضافات وخلطات مختلفة في كل مرة كانت تجرب شيئًا جديدًا، كأنما كانتْ في مرحلة شراكتنا تتدرب من أجل صناعة أفضل طبخاتها، وجدتْ أنواعًا متعددة من الحنة والعسل الأسود، وأنواعًا مختلفة من الأسمدة. كان لديها جدول منتظم تنبهني فيه لتوقيت وضعها بالتربة. تبدت حماقتي كاملة حينما اكتشفتُ أنني أعرف القليل عن تفاصيل خلطتها. كنتُ طوال مراحل الطبخ أركز أكثر مع الموسيقي أو ساقيها وكُسها المنتوف، وانتظر اللحظة، التي ستقوم فيها للمطبخ لوضع العجينة في الفرن حتى أشاهد ردفيها يتحركان كما الكواكب وهى تدندن: “ماشية السنيورة.. كدا كدا، وتغيب في الممر نحو المطبخ. كنتُ ضائعًا في بهائها، أبحث عن غفرانها وانتظر وأعد ضحكاتها مع كل لحظة نلتقي فيها. وكانتْ مع كل طبخة تجعلني أتذوق أول سيجارة، وتسألني رأيي، ثم تدونْ ملاحظات صغيرة في دفتر صغير عليه صورة أفيش فيلم “Kill Bill”.

نشرت الجرائد صفحات خاصة عما أسمته مخدر السنيورة، وخطورته على الاقتصاد والصحة وأنه يدمر خلايا المخ. بدأ الكثيرون يواجهون صعوبة في الحصول على السنيورة، وقدرتُ أنها تخوض حربًا مع تجار المخدرات الآخرين وشبكات المصالح التي تتحكم في تجارة المخدرات في البلاد. كانت تتوسع في توزيعها، والأساطير تسبق حشيش السنيورة“. قال أحدهم بعد ثالث نفس من السيجارة: “السنيورة جاءتْ لتنقذ العالم“.

تصنعتُ القوة، ومارستُ ضغوطًا كبيرة لأجل النسيان، لكن في كل مرة كنتُ أحاول مغادرة المعبد المتهدم، حيث أعيش وأزور بشرًا آخرين. كان الحديث يتحول إلي السنيورة، من تكون؟ وما هو سر الحشيش الذي تصنعه. أحيانًا يصيبني حزن عميق، فأجلس في المنزل أعتني بالنباتات وأشاهد أفلامًا أمريكية في التلفاز. ثم ذات يوم رأيتُ في الحلم كأن الماضي يفرض نفسه على لحظة الحاضر. كنّا نعيش مع بعضنا البعض. قبل السنيورة وقبل أن يركب العناد الرأس ويدلدل الرجلين. كنتُ نائمًا في الحلم وأتتْ هي واحتضنتني من ظهري، وشعرتُ كما لو أن السعادة كانت هنا دائمًا أمام العينين. لكن كان لابد من رحلة الآلام الطويلة. وفي الحلم كان لدينا كلب ضخم، رغم أنني وهي لم نكن نحب الكلاب.

استيقظتُ من الحلم، وأخذتُ أبكي في صمت شاعرًا بحموضة تخرج من بطني لحلقي، حينما رن التليفون وظهر اسمها على الشاشة. شهور طويلة قد مضت دون أي اتصال منها، كتمتُ دموعي وسيطرتُ على تنفسي، قبل أن أرد في صوت محايد:

ألو.. ازيك  أ كوكو؟

في حسم وعجالة، كما أصبحتْ جميع مداخلاتها، طلبتْ أن نلتقي. حددتْ هي الموعد وقالتْ سوف آتي لزيارتك، لكن لا تخبر أحدًا، حياتي الآن تغيرتْ، وختمتْ الحديث: “لن يغير هذا من الوضع القائم“.

حينما دخلتْ المنزل لم أعرف هل تغيرتْ، أم بسبب طول مدة غيابها بدت لي مختلفة، وإن كان لطلتها الحضور الذي يجعلني ابتسم بلا سبب، جلستْ على الطاولة، أخذنا نتحدث في أمور عابرة، ثم أخرجتُ قطعة حشيش متبقية لديّ وبدأتُ في فركها، سألتني وهى مبتسمة: “دي أنت اللي طابخها؟، هززتُ رأسي وجاوبتها:”لا دي حشيش السنيورة.. يا سنيورة“.

وضعتْ قدميها على الطاولة أمامي، حول قدمها اليسرى كان هناك خلخال رقيق وشفاف. سلسلة فضية رفيعة تلتف حول ساقها الرخامية، بشرتها تلمع في منطقة ما تحت الضوء. من السلسلة تتدلى كرات صغيرة تشكل الكواكب التسعة، كل كرة مُفرغة وداخلها كوكب أصغر، بحيث إذا سارت تهتز مُصدرة صوتًا كأصوات أجراس سرمدية.

ناولتها السيجارة ملفوفة. قصتْ عليّ تفاصيل من عالمها الجديد. معظم الوقت تعيش بجوار البحر الأحمر، تتنقل من العين السخنة إلى الجونة وسفاجا وحتى مرسى علم. تزور القاهرة على فترات متباعدة لإنجاز بعض البيزنسعلى حد تعبيرها. البيزنس كان عددًا من الشراكات مع ديلرات وتجار حشيش بنظام الفرنشايز“. تشرف بنفسها على الخلطة، وتعيش على عائداتها. لكن الأمور مؤخرًا لا تسير على مايرام. السوق ليس سهلًا والمنافسة شرسة، ولكي تحصل على حماية من الشرطة لا بد أن تقدم لهم بعض القرابين. أمام الرأي العام يجب أن تعلن الشرطة عن القبض على شخص أو شبكة من مروجي مخدر السنيورة، أخبرتني أنها تفكر في السفر إلى خارج البلاد لبعض الوقت حتى تهدأ الأجواء، لكنها لو غادرتْ السوق في الوقت الحالي، فلا مجال للعودة مرة أخرى.

سألتني: “وأنت.. عامل إيه؟

–        وحشتيني، أنا عايزك.

جاوبتها وانهمر شلال طويل من الاعترافات، كان الأمر بمثابة إعلان استسلام كامل. بلا سبب مفهوم حتى الآن، أخذتُ أحكي لها ذكرى قديمة عن مرة منذ سنوات كنا نسبح فيها على شاطئ نويبع، وأخذنا نتأمل الشعب ونطارد أسماكًا ملونة. مددتُ يدي إلى إحداها فجرحني شوكها، كانت ترتدي مايوه قطعتين بلون وردي، شعرها كان أطول قليلًا، المياه تجعله يلتصق بجسدها.

أخذتُ أقص عليها أوصاف السمكة بينما هي اقتربتْ مني وضمتني، تسارعتُ أنفاسي وأنا أعانقها. نبضات قلبي، كما لو كانت تخرج من سماعات تضخّمها، وأنفاسي تتسارع، بينما هي تضمني وتزيح ملابسي عني، وهى تردد كلمة واحدة: “بس.. بس، كأنما تهدهد طفلًا صغيرًا.

تعرينا وكانت دموعنا تختلط بالقبلات والعسل واللعاب. العظام تطقطق تحت ضغط الأحضان والعناق، والروح في الحلقوم. مارسنا الحب بحزن. كنتُ أرغب فقط أن أظل داخلها، بلا حراك، كمن يرغب في ثبات الزمن المستحيل. احتضنا بعضنا البعض بعد نصف نشوة لدقائق، ثم قامتْ وبدأتْ في ارتداء ملابسها، وهي تلقي جملًا مبعثرة مفادها الوداع.

ظللتُ ليومين في ذات الموضع الذي تركتني فيه عند مغادرتها للمنزل. شعرتُ أن كل الطاقة والرغبة في الحياة داخلي قد انتهت. أخيرًا استطعت النهوض، أخذت حمامًا بالماء البارد، ثم خرجتُ وبدأت في جمع كل أوراق النباتات المزروعة في البلكون وفي الغرفة، أخرجتُ العدة، وضعتُ أغنية لأم كلثوم، وأخذتُ أطبخ كل الحشيش الموجود في المنزل، وضعت العجينة في الفرن، ثم أجريتُ اتصالًا بمخبر شرطة. أخرجتُ المكبس المنقوش عليه اسم السنيورة وأخذتُ أكبس به بلاطات الحشيش، ثم رصصتها على الطاولة.

جلست أدخنُ، وأنا أحلم بأسوار طويلة ومكان قذر، لا مساحة فيه للأحلام ولا الرجاء.

اترك رد

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.

%d bloggers like this: