نائل الطوخى في الثلاثين: أنا كاتب الكونتراست

بمناسبة اقتراب عيد ميلاده الأربعين، نعيد نشر حوار أجراه أحمد ناجى وأحمد وائل مع أمير الرواية الذهنية والدراما الهزلية نائل الطوخى. أجرى هذا الحوار منذ عشر أعوام حينما بلغ نائل الثلاثين، على أمل أن نصدر جزء ثانى منه بمناسبة عيد ميلاده الأربعين. ولا يفوتنا أن نهنئ نائل الحبيب بروايته الأخيرة التى يخرج فيها من البلاعة، ونقول له انزل يا جميل على الساحة، فالأربعين سنة النبوة، ولقد أوتيت الحكمة صبيا فأصعد  من عيون القادمين إلى غروب السهل. أصعد من صناديق الخضار. و قوّة الأشياء أصعد

DSCF0138
صور أرشيفية لنائل الطوخى تعود لعام 2008 أثناء محاولته الهروب من حصار الأسئلة

حاوره: أحمد وائل

وأحمد ناجى

نائل فى الثلاثين..خبر مهم، بل حدث مدو، هل تغير أمير الذهنية بعد وصوله للثلاثين؟ هل سينتقل إلى خندق حراس الجمود؟

هل سيتوقف عن الكتابة؟ ما معنى الثلاثين عند نائل الطوخي.. يقول المتصوفون أن الناى حزين لأنه يبكى الشجرة التى نزع منها.. لهذا يحن الناي إلى بداياته.. ويحزن بعمق، بنبل، بأسى، هل يحزن نائل مثل ناى وحيد؟

قبل أيام من بلوغ نائل الثلاثين كان يحدثنى بشكل ودى وحميمى عن مشروع رواية جديدة يريد أن يكتبها باللبنانية، ونشر فصلا منها تحت عنوان “82”. كان لنا ، ولكم، وللأمة العربية، هذا الحوار مع صاحب “خواطر ثائرة لفلاح مصرى”، ورواية “أرانب مطبوخة بالسمنة”

…………………………………..؟

انظروا. حينما بدأنا الكتابة كان العالم غير العالم والكتابة غير الكتابة. كانت

الدنيا رائقة وودودة ولم يكن هناك ذلك الصراع الفارغ حول الأفضل والأروع (يغمز بعينيه ويخرج طرف لسانه) والأكثر استحقاقا للترجمة والجوائز.

الكتابة كانت زي الحشيش: مزاج. طبعا كنا مجرد شباب ثوري متحمس. ظننا أن الثورة ستقوم بكرة، ومضى بكرة، ومضى بعد بكرة، واكتشفنا أن الثورة وهم كبير، فتفرغنا للسهر بالبار والاتهامات بالعمالة التي كنا نطلقها بين الحين والآخر كنوع من المداعبات المرحة والظريفة بيننا وبين زملاء القرطاس والقلم.

عن نفسي، أنا لم أحب السهر في البار، كانت عندي دائما مشاكل مع دماغ الخمرة، كنت أشعر أنها تتدخل بقسوة في تكويني الجسماني الصافي، بعكس الحشيش، ومثلما قلت لك: الكتابة حشيش، هذه مقولة أنا مؤمن بها، ومستعد للدفاع عنها حتى الموت.

………………………..؟

هذا شيء بتاع ربنا.

ربنا سبحانه وتعالى يقول ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا ولا تدري نفس بأي أرض تموت. وبعدين أنا دائما بأحرص على أن أستحمى بعد ممارسة الجنس أو الشرب. حتى لا يأخذني الموت على خوانة.

meritwritersnaeleltoukhi
نائل الطوخى 

………………………؟

نعم. مجموعتي الأولى أصدرتها وأنا أبلغ واحد وعشرين

سنة، كانت عبارة عن خواطر متناثرة ومكتوب على غلافها “خواطر ثائرة لفلاح مصري” حسب الطريقة التي كانت متبعة زمان. وقد لاقت استحسانا كبيرا عند نشرها. كتب عنها الناقد الكبير الأستاذ أحمد الهندي والروائي محمد

أحمد، ولكن أكثر مقال أتذكره بالامتنان كان مقال الناقد الكبير تامر أبو هيثم، حيث استغل موقعه في جميع الجامعات الأجنبية وقدم تعريفا جيدا بها وبي فله كل الشكر.

إذا قارنتم هذا بما يحدث الآن فلن تجدوا أحد يكتب أو أحد يقرأ. خلاص. الجهل بقى نعمة (ينفخ دخان السيجارة بشجن). يعني أنا مثلا متابع للأدب الشاب،وتعجبني بعض الأسماء التي تحاول تقديم طريقة سرد جديدة وإن كان ينقصها المشروع المتكامل والدأب. ولكن من الذى يتابعهم من النقاد مثلما قام النقاد الكبار بمتابعتنا؟ لا أحد للأسف.

أنا أرى أن هذا جيل مظلوم. الله يكون في عونكم.

……………………….؟

آه. بالنسبة للأستاذ أحمد الهندي فلقد كان واحدا من أهم نقاد جيلنا. لقد كنت أراه في أستوريل يوميا من الساعة الثانية ظهرا حتى الثانية من صباح اليوم التالي. تصوروا أنه كان يشرب طول الوقت، وكان يعتبرها عيبة كبيرة في حقه إذا قعد وماشربش أو إذا ترك شخصا آخر يحاسب على الترابيزة. وكان طول الوقت يكلمنا عن التيارات الجديدة مثل الواقعية ومابعد الواقعية وغيرها. ولم يتخلف عن ميعاد جلسته هذه يوما واحدا. أما محمد أحمد فهو يعتبر أديب عالمي، وبعدما نشرت المجموعة بسنتين أخدت بنته، تزوجتها، وتصور أنه على مدار عشرين سنة زواج لم يتدخل في حياتنا الخاصة أبدا. برغم أنها – أي بنته –كانت سليطة اللسان ودائمة الشكوى، ولكنه كان – بتفهم الروائي الكبير – يقول لي: هذه زوجتك، وأنا لا أريد أن أتدخل في حياتكو أبدا.

 لقد كان نعم الروائي والصديق والحما رحمة الله عليه (يفتح يديه ليقرأ الفاتحة(.

……………………………؟

(يضحك بصوت عالي) السياسة حلوة. بصوا. السياسة دماغ. وأحلى دماغ كمان. أحلى من الحشيش.

أنا لما أكون مش مزبوط باروح أعمل دماغ سياسة. ندوة. مظاهرة. مناقشة جامدة. هكذا يعني. فيه بعض الناس التي تقول إن السياسة وحشة. لأ. أنا رأيي الشخصي أنها حلوة.

……………………….؟

أنا وإنتوا نقول هذا الكلام. ليه؟ لأن الناس تتصور أن الكاتب عندما يبلغ سنا معينا فإنه يغير أفكاره. لكن أنا وإنتوا عارفين الحقيقة. أنه لايغيرها. صح؟

طيب، كلامي واضح، أنا لم، ولن، يتغير موقفي من الذهنية، فهي تعتبر أول من قدمني للقراء بشكل أنصفني، وهي التي قدمت لي الخلفية التي أتسند عليها في أعمالي كلها. يعني خذوا عندكم مثلا، إنت مثلا بتكتب قصة حببين واحدة فقيرة وواحد غني، هذا موضوع ممتاز ومبتكر، ولكنه ليس ذهني بمافيه الكفاية، وبالتالي فالأمر لا يمنع من وجود بعض التيمات الذهنية في الكتابة، يعني أن تجعل البنت الفقيرة فقيرة جدا، والغني غني جدا، وهكذا يحصل الكونتراست.

n610580249_1551570_1636
صورة مهزوزة يظهر فيها من اليمين لليسار، ياسر عبد اللطيف، نائل الطوخى، وأحمد وائل

………………………….؟

(بتسم) نعم. أنا كاتب كونتراست. بعض الناس يتصورون أنني أزعل من هذا الوصف ولكن الحقيقة هي لا. أنا أرى أن كل واحد أستاذ في صنعته. وكان أول من وصفني بهذا الوصف الراحل الجليل الأستاذ محمد أحمد، الأديب العالمي وحمايا العزيز.

…………………؟

مثل ما قلتلكو من شوية، كل واحد أستاذ في صنعته. ربنا دائما يسبب الأرزاق. لا أحد يرزق حد، ولكن دائما هناك أسباب. الرواية الذهنية مثلا عندما ظهرت كان هناك تيارات أخرى.. ولكن هي اكتسحت الجو لأنها أثبتت جدارتها.. بينما التيارات الجديدة تحاول أن تثبت لنفسها مكانا ولكنها تفشل المرة تلو المرة.. لماذا؟

لأن الناس تنبذها. وربنا سبحانه وتعالى يقول أن ما ينفع الناس يمكث في الأٍرض.. لأحكي لكم قصة طريفة. أنا كنت ماشي في الشارع أقوم بجولتي الصباحية المعتادة. قابلني شخص استشفيت من ملابسه أنه بسيط الحال. وسألني لماذا لم أقم بواجبي في محاربة التيارات الجديدة التي جاءت بعد الذهنية. أنا قلت له شوف يا حاج. إنت شغال إيه؟ قال لي أنا على باب الله. قلت له إنت راجل طيب. لو جاء شخص ما وقرر أن يزاحمك في رزقك. هل تحاربه أم تترك ربنا ياخد لك حقك منه؟ قال لي أترك ربنا ياخدلي حقي طبعا.

قلت لهو هكذا هي الكتابة الذهنية يا صديقي.

إذا لم تخني الذاكرة فالرجل اعجبه كلامي لدرجة أنه حاول أن يقبل يدى ولكنني رفضت. .

………………….؟

)بتسم بسخرية) والموبايل الذي تحمله حضرتك غربي. وجهاز التسجيل الذي تسجلبه غربي. هل معنى هذا أن لا أستخدم هذه الأشياء وأتقوقع داخل نفسي؟ لا. يبقى الحل إيه؟ يبقى أنا آخذ من الغرب الأشياء التي تنفعني وأترك الأشياء التي لا تنفعني. وأنا أرى أن قصيدة النثر والشيوعية لم ينفعوا المواطن المصري، بينما الرواية الذهنية نفعته كثيرا. جعلته أكثر صحة، أكثر اهتماما بنفسه، وحققت له مستوى من الرفاهية لم يكن يحلم به قبلها. بالنسبة لماضي الرواية المصرية فأنا واحد من الناس الذين يرون أن إمبارح أحسن من النهاردة، والنهاردة أحسن من بكرة. قل لي: ليه؟.

اقولك. لأن النهاردة أنت عرفته بالفعل، بينما بكرة لا تعرفه. صح كدا؟ وهذه

إجابتي على مستقبل الرواية المصرية أيضا. أرجو أن يكون كلامي واضحا وألا

يساء فهمه.

………………..؟

شوفوا. أنا لا أسميه جنسا وإنما لذة جنسية. لأن كلمة جنس لوحدها هكذا تحمل لي دلالات غير مريحة. أنا لا أستريح لها. بالنسبة للذة الجنسية فهي من وجهة نظري لذة جنسية ذهنية، يعني مثلا أنت ممكن تزبط مراتك بالليل، لكن هذا يتم بدون ذهنية، هنا أنا لا أعتبر التزبيط تزبيط.

التزبيط في رأيي هو عمل كل الحواس، وأولها الذهن طبعا. (يقهقه بعنف شديد) إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

…………….؟

بالنسبة لموقعي من المؤسسة فأنا أحب المؤسسة. (يبتسم بود) هناك ميكروباص عندنا دائما ما يقول التباع بتاعه مؤسسة مؤسسة. هذه مجرد نكتة طريفة طبعا،ولكنها ترمى على ما هو أعمق. فأنا أرى أنه يتم التعامل مع المؤسسة كأنها مجرد تبّاع ميكروباص. وهذا ظلم. المؤسسة تمثل بالنسبة لي تاكسي. أنتوا عارفين. أنا بطلت ركوب ميكروباصات من زمان.

الصحة لم تعد مثل زمان. زمان كان هناك بركة كما قلتلكو. أنا أفضل التاكسي دائما. طبعا أدفع أكتر فيه. ولكن من الذي لا يدفع أكتر في هذه البلد. الإنسان هو الوحيد الذي يرخص يا أصدقاء.

تم حذف نص الأسئلة لاعتبارات خاصة بالمساحة، كما سنوفيكم تقريباً بالصور الخاصة بالحفل الذهنى الكونى الذى نظمه مجموعة من المعجبين ومحبى نائل بمناسبة بلوغه الثلاثين.

هلاوس الحمى

نشرت هذه التدوينة في 2008 على النسخة القديمة من مدونة “وسع خيالك- أيام خيال الظل”

منذ سنوات قادتني الظروف إلى مكان يدعى “الخديوى” على ما اذكر، كان يقع على حدود شبرا مع المؤسسة. مقهى وبار شبعى يمتلأ أيضاً بالشراميط الشعبيات، على ما اذكر أيضاً كنت أتحدث أنا ورفيقي مع إحداهن حينما فجأة ارتفع صوت أحدهم “لا إله إلا الله” ثم كصرخة عرسه في منتصف الليل أخذت تصرخ إحداهن في هستريا، كان أحد زبائن البار قد توفي مكانه وهو جالساً.

غالباً ما احتفظ بمثل هذه الحواديت لنفسي لفترة طويلة، أظل مشغولاً بها، أخرجها من الدرج وأقلبها يميناً وشملاً، ثم أعيدها إلى مكانها، رافضاً تبادلها أو تشاركها مع أى شخص أعرفه أو لا أعرفه. في حالات نادرة أكون سكراناً وحزيناً أو مرهقاً لا أجد ما أقوله فالتفت لمن يجلس بجواري واحكى القصة في أقل من ثلاثين ثانية ثم أظل أعيد المقطع الأخير لما يقرب الثلث ساعة “مات.. الراجل مات، وكل الناس في البار قاموا روحوا إلا أنا واللى كان معايا”

زمان كان مهابوف يلتفت لى ويقول “وبعدين” فأرد “مفيش.. بس خلاص“، فيعيد ترديد حكمته الخالد ودرسه الذي كان يقرره على أذنه لثلاث سنوات “يا ابنى مش ينفع كدا، لازم تنهى الحدوتة بأفيه، وإلا الناس اللى حواليك هتقول عليك بضان، وبعدين تبقي بيضة، وبعدين تفقس.. وأنت أكيد مش عايز كمان خمس سنين تلاقي نفسك كتكوت خول صغير بيجري ورا الدود في الشارع زى العيال اللى بتجري ورا عربيات الرش“.

لكن الآن أصبحت مرهقاً من كل هذا، وحينما تتعبني عيناي في آخر الليل من القراءة والتطلع لشاشة الكمبيوتر، افتح جوجل ايرث واتأمل شكل الكرة الأرضية من بعيد وأنا أقلبها بالماوس، أفكر في السفر لكن أشعر بالإرهاق بمجرد التفكير في الفكرة في حد ذاتها، كما أننى ومن خلال التجربة لا أظن أن اقامتى في مكانٍ آخر سوف تغير الكثير فأغلق الجهاز وأنام، وأصحو ثانى يوم لأبدأ في إرهاق نفسى على مدار 24 ساعة لا تزيد ولا تنقص ولا تقسم ولا تضرب… 1×1 يساوى 1 وكلما وصلت الأرقام على الساعة إلى الدقيقة 23:59 تتحول إلى 00:00 ثم تبدأ في العد من جديد..

لا شيء يبعث على السلوى والتسلية سوى مراقبة هؤلاء البشر الذين تظهر صورهم في الجرائد والتلفاز أو يلتقي الواحد بهم في مسيرته، أميزهم من رائحتهم، من طريقة الابتسامة وتلك الكاريزما وحب الحياة الذي يستعرضونه طوال الوقت، كأنهم شاب مراهق يدخل مدرسته الثانوية متأبطاً ذراع شابه مزه باهرة المزمزه. يشعر كل واحد منهم بأهميته بشكل لا يصدق، فهذا دكتور كبير، والثانى مناضل لا ينام من قلقه على الوطن، والآخر صحفي شهير، والثالث كاتب يقاسي إرهاق الإبداع ويستحلب متعته المازوخيه العظيمة… هؤلاء الكائنات الجميلة، أود يوماً لو أتفرغ تماماً لأضع لائحة طويلة بأسمائهم وأمنح حياتى للطواف حول الكرة الأرضية ومصافحتهم باليد واحداً واحداً لأشكرهم على التسلية التى يمنحوها إلي بنشاطهم التافه العظيم في الحياة.

Untitled3
صورة من شريط مصور لكاندريك لامار

%d bloggers like this: