هلاوس الحمى

نشرت هذه التدوينة في 2008 على النسخة القديمة من مدونة “وسع خيالك- أيام خيال الظل”

منذ سنوات قادتني الظروف إلى مكان يدعى “الخديوى” على ما اذكر، كان يقع على حدود شبرا مع المؤسسة. مقهى وبار شبعى يمتلأ أيضاً بالشراميط الشعبيات، على ما اذكر أيضاً كنت أتحدث أنا ورفيقي مع إحداهن حينما فجأة ارتفع صوت أحدهم “لا إله إلا الله” ثم كصرخة عرسه في منتصف الليل أخذت تصرخ إحداهن في هستريا، كان أحد زبائن البار قد توفي مكانه وهو جالساً.

غالباً ما احتفظ بمثل هذه الحواديت لنفسي لفترة طويلة، أظل مشغولاً بها، أخرجها من الدرج وأقلبها يميناً وشملاً، ثم أعيدها إلى مكانها، رافضاً تبادلها أو تشاركها مع أى شخص أعرفه أو لا أعرفه. في حالات نادرة أكون سكراناً وحزيناً أو مرهقاً لا أجد ما أقوله فالتفت لمن يجلس بجواري واحكى القصة في أقل من ثلاثين ثانية ثم أظل أعيد المقطع الأخير لما يقرب الثلث ساعة “مات.. الراجل مات، وكل الناس في البار قاموا روحوا إلا أنا واللى كان معايا”

زمان كان مهابوف يلتفت لى ويقول “وبعدين” فأرد “مفيش.. بس خلاص“، فيعيد ترديد حكمته الخالد ودرسه الذي كان يقرره على أذنه لثلاث سنوات “يا ابنى مش ينفع كدا، لازم تنهى الحدوتة بأفيه، وإلا الناس اللى حواليك هتقول عليك بضان، وبعدين تبقي بيضة، وبعدين تفقس.. وأنت أكيد مش عايز كمان خمس سنين تلاقي نفسك كتكوت خول صغير بيجري ورا الدود في الشارع زى العيال اللى بتجري ورا عربيات الرش“.

لكن الآن أصبحت مرهقاً من كل هذا، وحينما تتعبني عيناي في آخر الليل من القراءة والتطلع لشاشة الكمبيوتر، افتح جوجل ايرث واتأمل شكل الكرة الأرضية من بعيد وأنا أقلبها بالماوس، أفكر في السفر لكن أشعر بالإرهاق بمجرد التفكير في الفكرة في حد ذاتها، كما أننى ومن خلال التجربة لا أظن أن اقامتى في مكانٍ آخر سوف تغير الكثير فأغلق الجهاز وأنام، وأصحو ثانى يوم لأبدأ في إرهاق نفسى على مدار 24 ساعة لا تزيد ولا تنقص ولا تقسم ولا تضرب… 1×1 يساوى 1 وكلما وصلت الأرقام على الساعة إلى الدقيقة 23:59 تتحول إلى 00:00 ثم تبدأ في العد من جديد..

لا شيء يبعث على السلوى والتسلية سوى مراقبة هؤلاء البشر الذين تظهر صورهم في الجرائد والتلفاز أو يلتقي الواحد بهم في مسيرته، أميزهم من رائحتهم، من طريقة الابتسامة وتلك الكاريزما وحب الحياة الذي يستعرضونه طوال الوقت، كأنهم شاب مراهق يدخل مدرسته الثانوية متأبطاً ذراع شابه مزه باهرة المزمزه. يشعر كل واحد منهم بأهميته بشكل لا يصدق، فهذا دكتور كبير، والثانى مناضل لا ينام من قلقه على الوطن، والآخر صحفي شهير، والثالث كاتب يقاسي إرهاق الإبداع ويستحلب متعته المازوخيه العظيمة… هؤلاء الكائنات الجميلة، أود يوماً لو أتفرغ تماماً لأضع لائحة طويلة بأسمائهم وأمنح حياتى للطواف حول الكرة الأرضية ومصافحتهم باليد واحداً واحداً لأشكرهم على التسلية التى يمنحوها إلي بنشاطهم التافه العظيم في الحياة.

Untitled3
صورة من شريط مصور لكاندريك لامار

عزيزى بوعزت، لنعبر مسيرة اللذات

نشرت هذه التدوينة لأول مرة في نوفمبر2011، ضمن مجموعة الرسائل المفتوحة والتى نشرت على مدونة وسع خيالك القديمة

عزيزى بوعزت،

ذات مرة عاقبنى أحد المدرسين في المرحلة الثانوية بعدم كتابة اسمى في جدول الحضور رغم أنى كنت حاضر. قالها وفعلها ببساطة من يبصق تحت حذائه وبسبب  “أحمد ناجى.. غياب”. تحضرنى هذه الذكري بقوة مؤخراً. أنظر للخلف فأري نفسي تتبعنى. وأنظر للساعة فأراها معطوبة.

 قضيت ثلاث سنوات في مدرسة طه حسين الثانوية بنين. كان بعض الطلبة يكتبونها “مدرسة الدكتور طه حسين الثانوية بنين” وآخرون يكتبونها “مدرسة د.طه حسين الثانوية بنين”. أذكر في أحد الامتحانات وصلت الفذلكة بأحد الطلبة إلي كتابتها “مدرسة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين”. وبخلاف حلقات متناثرة من مسلسل أحمد ذكى لم يكن أحد منهم يعرف أى شيء عن طه حسين. وأقسمت في هذه الفترة المبكرة أننى أبداً لن أحمل أى حروف قبل اسمى ولن اسمح لأن يلهو مثل هؤلاء المراهقين الحمقي به.

فضلت الغياب على أن أكون عرضه للسهو والخطأ أو المديح الجاهل.

ومثل كل المدارس والمؤسسات التعليمية التى عبرت عليها كنت أكره هذه المدرسة. وكان ملجأي فيها المكتبة الموجودة في نهاية الطابق الثالث. لأن المدرسة قديمة فالمكتبة كانت قديمة، تمتلئ بمئات من الكتب من الستينات والسبعينات.

من الفصول تأتينى همهمات الطلبة وسبابهم. وفي مدرسة طه حسين الثانوية بنين كان لدينا فناء واسع أجرد بمساحة ملعبي كرة. لكن الكرة كانت في الأغلب في غرفة الأدوات الرياضية مُغلق عليها بمفتاح معلق في رقبة أستاذ التربية الرياضية البدين والبضين. وحتي إذا كانت في الخارج فلم أكن أحب لعب الكرة. بجوار غرفة الأدوات الرياضية كان هناك مسجد ضيق تفوح منه رائحة عطنة نتيجة لتعفن الموكيت من أثر المياه المتساقطة من أصابع الأقدام. بجوار المسجد كانت الحمامات. ووراء هذه الكتلة العمرانية القبيحة كان مقر تدخين السجائر وأحيانا لف سجائر البانجو.

من نافذة غرفة المكتبة حيث كان يعبر الزمن علي في بطء كنت أشاهد الشارع الرئيسي والطلبة يقفزون من على السور نحو الفضاء الرحب. في الطرف الآخر كانت تقع المقابر والتى كان ينبع منها في هذا الزمن هدوء وسحر أخاذ كعطر لا يمكن التحرر من أسره.

هكذا عبرت مراهقتي بين الكتب والرومانسية الايروتيكيا للمقابر والعطن المنبعث من موكيت غرفة المسجد.

عزيزى بوعزت،

يقول “ديفيد بوي” في أغنيته الوجودية  I’m deranged “مضحكٌ هو، كيف تسَافر الأسرار”. وفي ذات الأغنية/ القصيدة يقول “لفى/ كروزى.. بي يا مزة/ بيبي”.

مضحك هو، كيف تسافر الأسرار يا بوعزت.

منذ دقائق صعد القطار حيث أكتب إليك رسالتى تلك مجموعة من العجائز الألمان، رائحة الخمسينات تفوح منهم، لكن رحيق الصحة  والنشاط يحضر في أصواتهم، جلسوا على الطاولة المقابلة لى، وأخرجوا حقيبة مليئة بعلب البيرة، زجاجة ويسكى، وزجاجتى كوكاكولا. اثنان منهما أخذا يشرب البيرة، والآخرين يشربون الويسكى مخلوطاً بالكولا.

ما الذي يفعله حفنة من الرجال في الخمسينات لم يعد لديهم على الأرجح أسرار ليدعوها تسافر؟!

يأخذون رحلة قطار تدوم لست ساعات ويسافرون هم بدل الأسرار على مذاق الويسكى بالكولا.

عزيزى بوعزت،

أبداً مطلقاً… لا تثق في المصطلحات

2012-05-31 15.25.01
تصوير: أحمد – مايو 2012

عزيزى بوعزت،

لا أزال أكتب إليك من القطار. من النافذة أخضر في أخضر فأخضر، خضار وأشجار ممتدة إلي ما لا نهاية، لا يكسر رتابة المشهد إلى مجموعات من الأبقار تسرح هنا أو هناك. ثم ندخل فجأة نفق طويل. من النافذة الآن لا شيء إلا السواد.. ظلمات فوقها ظلمات.

ومن نافذة المكتبة كان ترتمى جثة الشمس على مجموعة من المقاعد. وفي ليالي الشتاء كنت أحب بداية جولة القراءة في تلك البقعة أجلس حتى يمتص جسدى دفء الشمس. ثم أنتقل إلي مكان آخر إذا بدأت الحرارة تزعجنى.

أدين إلى ما أنا عليه الآن لمكتبة طه حسين الثانوية. هناك قرأت مئات الكتب التى أعرف أنه كان من المستحيل قراءتها في أى فترة آخري. كان لدى حلم رمانسي في تلك الفترة أن أقضي أيام الإجازة في المكتبة ألتهم الكتب كفيل في حفلة شاى. والأجمل أنى كنت أقرأ على غير هدى أو بينة.

أتذكر على سبيل المثال أني قرأت جوته وأنا أظنه كاتب فرنسي، وكنت أعتقد أن ديستوفيسكى عاش في زمن الثورة الحمراء، لهذا كان حزينا على الماضي ويحتقر الإنسانية وحماسها. من ذكريات القراءة على غير الهدي أنى قرأت مسرحية بعنوان “بيت الدمية” لكاتب يحمل اسم “هنريك أبسن”. ظلت المسرحية وعنوانها عالقاً في ذهنى بينما غاب لسنوات اسم الكاتب. حتى ذات يوم كنت أعبر أمام مسرح البالون ووجدت إعلاناً لمسرحية كانت تقوم ببطولتها بوسي “بيت الدمية” للكاتب العالمى “هنريك ابسن”. في هذه الفترة كانت بوسي قد حصلت على الطلاق من نور الشريف بعد افتضاح أمر مغامرته القصيرة مع ممثلة مغمورة. وكان هذا زمن بعيد..

على مدار ثلاث سنوات، كنت أقرأ القصص القصيرة لمصطفي محمود، الأعمال الكاملة لنجيب محفوظ، شكسبير، تشيخوف، ديستوفيسكى، موليير، نيتشه، سيجموند فرويد، يحيي حقي، بوشكين، برنارد شو، صلاح عبد الصبور، موباسان، فولتير، لوركا، المعري… إلخ.. إلخ في المقابل فلم أستطيع قراءة أى شيء ليوسف السباعي، أو إحسان عبد القدوس، أو عبد الحليم محمود أو عبد الرحمن الشرقاوى.

وطوال رحلة الثلاث سنوات كنت مهبولاً بكتاب موسوعى آخر لأنيس منصور “أعجب الرحلات في التاريخ” لم أستطيع إنهاء قراءة أى كتاب آخر لأنيس منصور. لكن هذا الكتاب بالذات سحرنى لسنوات طويلة، كان نافذة للأحلام البعيدة. قبل مغادرتى القاهرة أخذت أبحث عن الكتاب في أكتر من مكتبة ولكن لم أجده.

“أعجب الرحلات في التاريخ” كتاب نادر أتمنى أن أضيفه لمكتبتى الضيقة، الصغيرة.

منذ المرحلة الجامعية لم يكن لدى مكتبة، ولم أحب أبداً الاحتفاظ بالكتب. لكن منذ بضعة أشهر وتحت إلحاح سوسو ونزعة رومانسية تملكتنى. ذهبت إلى مجمع ضخم في شارع الهرم للأدوات المنزلية والخشبية والحدائقية واشتريت سبعة أرفف وضعتها في غرفة المكتب. وقررت أبداً إطلاقاً أن لا يزيد عدد الكتب التى أملكها عن هذه الأرفف. حينما تزيد لا أقوم بإهداء الكتب، أو التبرع بها لمكتبة الجامع. فهذه وإهانة للصديق الذي أهدى إليه الكتاب وإهانة للمكتبة العامة التى أتبرع بها للكتاب. وصلت لحل أكثر إنسيابيه وإثارة. أفتح الباب في المساء أضع الكتب أمامه وفي الصباح أفتح الباب تكون الكتب قد اختفت.

عزيزى بوعزت،

لا تهدى كتب لا تريدها، ولا تأخذ إلا الكتب التى تريدها.

عزيزى بوعزت،

كان يشرف على المكتبة مدرسان. الأولى فتاة ذات روح عانسة. تقريبا كانت لا تتكلم مع أحد تأتى وتظل جالسة على المكتب إلا لإعداد أكواب الشاي التى يطوف حولها الذباب ما أن ينضب منها السائل الأسود. الآخر كان أستاذ رضا الروش.

ملابسة دائماً ملونة، لكن على عينيه نظارات شمسية سوداء معتمة لا يخلعها حتي داخل المكتبة. حاول التقرب أو التعرف عليا نظراً لأنى كنت أكثر من يزور المكتبة، لكني قابلت محاولته ببرود. كنت ولا أزال لا أحبذ الروشيين، ولا أرتاح لمن يرتدون النظارات السوداء باستمرار. وعلى عكس جميع مدرسي المدرسة لم يكن “رضا” يهتم بقراءة الجرائد التي تصل كل يوم للمكتبة، ونادراً ما رأيته يقرأ كتاب ما. أحياناً كنت أراها فقط يتفحص بمتعة واستغراق مجلة “نص الدنيا”. وطوال حياتى على هذه الأرض فلم أعرف أو أري أى إنسان آخر غير رضا يقرأ مجلة “نص الدنيا”. من رضا تعلمت قواعد الفهرسة وأساسيات علم المكتبات.

في السنة الدراسية الأخيرة كان رضا يتصيد الأيام النادرة التي آتي فيها للمكتبة لتبديل الكتب ليفتح معى أى حوار، وكانت معظمها تتركز في شكل نصائح عاطفية رغم أني أبداً لم أطلبها منه. وأمامى صمتى ولا مبالتى بحكايته. كان يأخذ في استعراض حكايته الخاصة التي كانت دائماً تدور في فترة داسته الجماعية. حتي أنى تخيلت في هذه الفترة أن حياة الإنسان العاطفية تنتهى حينما يتخرج من الجامعة واكتشفت بعد ذلك أن العكس هو الصحيح. من ضمن حكاياته التى كانت تمتزج فيها المبالغات بالخرافات. حكي لى رضا كيف أنه ومجموعة من أصدقائه أسسوا جماعة في الجامعة مهمتها معاكسة الفتيات غير الجميلات كهدف إنسانى لتوزيعه عطفه وفحولته، وإشعار هؤلاء الفتيات بأنوثتهن. أتذكر أنى جلست صامتاً وهو يحكى برومانسية بالغة هذه القصة ثم قمت وهرولت نحو أقرب حمام وتقيأت كل ما في معدتى.

في هذه الفترة ولأسباب سيكولوجيا كنت أتقيأ باستمرار. الآن ولم أعد أتقيأ، ولم أعد أشعر بضغط تلك الأسباب السيكولوجيا، لكنى لا أعرف أخير هذا أم شر.

الطلاق مسيرة من الفخاخ المتوالية

voأحدهم نصب لى فخاً! في الأفلام والمعالجات الدرامية والروائية، وحتى في النبرة التي يحكي فيها الذكور متفاخرين بتجاربهم العاطفية، يرد الانفصال أو الطلاق كوصمة عار ونقطة حزن في حياة المرأة، ولحظة قوة وحزم في حياة الراجل… وقد وقعت في الفخ.

سواء أكانت المقدمات للطلاق أو الانفصال من سفاسف الأمور التي تتراكم ببطء وصبر حتى لحظة انفجار تدمّر السد، أو جلمود صخر يسقط فجأة فيولّد معركة تتنهى بنهايات درامية… مهما كانت المسببات أو النتائج، أو عدد المحاولات المتوالية لإصلاح ما انكسر، أو البحث عن مخرج للحفرة، هناك نقطة يصل الظلام فيها إلي أقصى درجاته: نقطة تتوهم أن الطلاق أو الانفصال هو بصيص النور الذي يمكنك أن تهرب عبره من سواد الظلمة إلي شمس البدايات الجديدة. هذا أيضاً فخ.
بينما تستسلم إلى حل نهاية الطلاق وتسير نحوه، تجد المسائل تتعقد أكثر. العائلة تبدأ في التدخل. وفي الغالب هذا أسوأ ما يمكن أن يحصل. فأولاً سيطالبون بالحق في معرفة كل التفاصيل والمبررات للطلاق، وتحت ضغطهم و”الزن على الودان” المتواصل سرعان ما ستستسلم وتخبرهم بالتفاصيل. وحتى إذا التزمت الصمت، وتمسكت باحترام خصوصية العلاقة، في اللحظة التي سيعترف فيها الطرف الآخر لعائلته ستندفع أنت في حماقة أخرى لتعترف بدورك لعائلتك. حينها ستتضاعف المشاكل وتتصاعد الدراما.
2012-12-10 13.08.36
تصوير: أحمد

سينفجر الأمر

الخطأ الثاني الذي وقعت فيه وغالباً ما يتكرر في العائلات العربية أن تقرر تحت دافع السأم واليأس ترك مناقشة التفاصيل المادية للانفصال وتوكيل العائلة بتولي الإجراءات القانوينة والبيروقراطية، أو أن تفقد أعصابك في أي لحظة من لحظات التفاوض. سينفجر الأمر، ومع العائلات سيتدخل المحامون، ليبدأ فصل آخر مساره المحاكم والقضاء الشامخ، ورشاوى للأمناء، وبلطجة وقلة أدب وقيمة في بلد لا تعرف من القضاء إلا شموخه.
شاهدت رجالاً ينهارون تماماً مع دخول المسائل في مرحلة المحاكم. يتحولون إلى مضطربين بردود أفعال عنيفة تجاه كل شيء، بل يصبح من الصعب التنبؤ بأفعالهم. لم أدرك الداعي والسبب إلا حينما مررت بذات الموقف. كان هناك بركان من المشاعر الجديدة كل يوم تخرج إلى الملأ لأول مرة. نعيش كذكور خلف قواعد وأقنعة تحدد لنا ما هي الرجولة، وما هي صفاتها، وكيف ينبغي أن نتحرك ونتفاعل كي نكون “ذكراً”، وكل هذا من أجل جذب الطرف الآخر. لكن حينما يتبدد الحلم، ونقترب من فقدان الطرف الآخر، تنهار أقنعة الرجولة ونرى أنفسنا في مواجهة فيض من المشاعر المختلطة والمتضاربة، والتي لم يخبرنا أحد كيف يجب أن نتفاعل معها. في المقابل، تمر حالة من السكينة والهدوء والثقة والقوة الغريبة على كل امرأة عرفتها مرت بمرحلة الطلاق والانفصال. قد تصاب بالحزن والإحباط، وربما حالة عدمية ولا مبالة، لكن تظل مسارات المشاعر ذات كينونة معروفة وهي الحزن والاكتئاب. أما الرجل، فبسقوط القناع، يسقط في “حيص وبيص”، وتضارب واندفاع جنوني من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار.
تجاوزتُ إجراءات الطلاق والانفصال بهدوء وسكينة وقدر من الاحترام والود. لكن ما بعد الانفصال: هذا الفراغ لم أعرف كيف أواجهه!. ظننت لفترة أنني حالة خاصة، مميز ومختلف، لكني سرعان ما وجدت أن قصتى متكررة. صديق طيار حربي جاء منهاراً بعد الطلاق يحكي كيف أنه، ولأول مرة، شعر بالتشتت حينما خرج في مهمة.
إذا اتجهت للخارج ستجد أن الهوة تتسع أكثر فأكثر
دورة مؤسفة. ففي الزواج اندفعت في دوامة العمل حتى تركت العلاقة تغرق في بحر من الرمال، وحينما انفجرت المشاكل، بدا الطلاق كوسيلة للتخلص من المشاكل والتفرغ للعمل. لكن بعد الطلاق، لم تعد هناك حاجة للعمل، وفكرة الادخار أو الاستقرار المادي تضاءلت. تحاول أحياناً تعويض الفراغ بالانطلاق في رحلات استشكافية جديدة، لكن إذا اتجهت للخارج ستجد أن الهوة تتسع أكثر فأكثر. ذلك أن ما لا تبحث عنه، وإن كنت تحتاجه، سيكون بالداخل وهى رحلة أكثر وعورة. لا تتوقع أبداً أن تجد ما فقدته، أو تجد أي شيء عموماً. فالمهم هو ما ستتركه الرحلة من آثار عليك. حينها ستتغير أنت وستجد أن ما تبحث عنه قد تغير، وأصبح شيئاً أو أشياء لم تكن لتراها دون العبور من هذا النفق وترك ما ظننته يوماً حياتك، وتعيش ولادة جديدة وإن حملت جينات وتاريخ الحيوات السابقة.
المدونات تعبّر عن رأي صاحبها وليس بالضرورة عن رأي الموقع.

تدريس عمر بن أبي ربيعة في سجن الزراعة بطرة

مؤخراً فجأة تطفو أو تلمع ذكريات من فترة السجن، بعضها مؤلم والبعض الآخر اتذكره باندهاش الآن وكأنى اسأل هل هذا كان حقيقي؟ اليوم مثلاً ودون سبب واضح تذكرت “ع” ورفاقه وهم مجموعة من العساكر المتهربين من التجنيد معظمهم مساجين بأحكام تتراوح من سنة إلى ثلاث سنوات بسبب التهريب من التجنيد (سنة السجن العسكري 6 شهور). في أسابيعى الأولى في السجن كانوا هم أقرف رفاق لي. معظمهم من الصعيد ومن أسر فقيرة جداً ومتهربين من التجنيد لأن عندهم عائلات وأسر تحتاج لأن يعملوا ويصرفوا عليهم

المهم أنى بالاشتراك مع سجين آخر (كان ناظراً لواحدة من أكبر المدارس الحكومية) أسسنا ما يشبه الفصل لمساعدة “ع” وبعض من زملائه في المذاكرة والدراسة لامتحان محو الأمية. “ع” كان نفسه ياخد شهادة محو الأمية لأنها تعادل شهادة الابتدائية ولو أخد الابتدائية يقدر يقدم على رخصة قيادة ، وبالتالي تصبح أمامه فرصة للترقي اجتماعياً من سائق “توك توك” لسائق “ميكروباص”..

لكنى اليوم استيقظت متذكراً ذات يوم إصرار “ع” على أن نقرأ واشرح له ونحلل قصائد عمرو بن ابى ربيعه بعدما وجد في المكتبة كتاب مختارات من شعره

%d bloggers like this: