نشأت في عائلة طبية بشكل كامل. الأب طبيب، الأخوة أطباء أو يدرسون الطب. الأعمام أطباء، والخال طبيب، كذلك يمتد الأمر إلي أبناء وبنات الأعمام والخال. تقريباً كنت الفاشل الوحيد الذي اختار في الجامعة دراسة غير علمية. كانت المعلومات الطبية جزء من الأحاديث اليومية والأسرية في العائلة. وعبر مسيرة الواحد كونت حصيلة بسيطة من القراءات والمعرفة عن جسدى وطريقة عمله. وحتى أيم قليلة كنت أظن أنى أعرف على الأقل أهم المعلومات الصحية وكيفية عمل أعضاء جسدى، حتى اكتشفت منذ أسبوعين مدى جهلي بالكثير عن أهم أعضاء جسدى.
Enter a caption
داهمني منذ فترة ألم خفيف في منطقة الخصية، تحديداً الخصية اليسري. كان الألم خفيفاً لكنه مستمر، لم يصاحبه أي أعراض أخري. استمر الأمر لعدة أيام وفي النهاية قررت زيارة الطبيب. كانت المفاجأة الأولى حينما أخبرنى طبيب المعاينة الأولي والذي يكتب بعد ذلك التحويل إلي الطبيب المتخصص بأننى احتاج إلي طبيب مسالك بولية، وليس أمراض ذكورة. حيث أن أمراض الذكورة لا تتعلق إلا بعمليات الإخصاب والتأكد على قدرة الذكر أن يكون ديك قادر على التلقيح.
تشخيص الحالة كان دوالي في الخصية، لكن الحديث مع الطبيب وكمية البحث التي قمت به في رحلة العلاج، كشف لى عن عالم كامل من أمراض الذكورة والجهاز التناسلي لدى الذكور لا أعرف عنه أي شيء. معلوماتي بشكل أساسي كانت تقف حول الأمراض التناسلية المعدية وكيفية الوقاية منها، كل ما غير ذلك مغيب ومعمم. تبدى لى صرح الجهل والتعميم عن كل الأمراض المتعلقة بالعضو الذكوري، حينما جاء الطبيب على ذكر حامل الخصية، فانفجرت في الضحك حيث كنت أظنه خرافة بينما اتضح كونه أداة طبية مساعدة تستخدم في بعض الحالات.
** *
لا يتحدث الذكور في جلساتهم الخاصة عن شيء أكثر من حديثهم عن الجنس. حديث الذكور عن الجنس هو حديث المعارك والانتصارات والتباهى بالأوضاع والقدرة على الانتصاب لفترة طويلة وتأخير القذف السريع. لكن يخلو هذه الحديث من لحظات الضعف والاضطراب. تستمد الذكورة جوهر وجودها من العضو الذكري. وفي مصر كما معظم البلدان العربية حيث الذكورة مستفحلة ومسيطرة، لا يقبل الذكر الحديث أو التطرق لأى ضعف خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بمنبع ذكورته. وحيث أننا في عالم ومجتمع ذكوري كما علمتنى الكتابات النسوية، فذات القواعد تسير وتؤثر على الذكور أنفسهم وعلى برامج التوعية الصحية وتوجهاتها في المجتمع.
الطبيب أثناء حديثنا كان يكثر من ترديد جملتين أساسيتين بلا داعي. الأولى هي “لا مؤخذة” والثانية “مش عايزك تقلق أبداً، كل الرجالة عندهم الموضوع دا لكنهم لا يقولون”.
خلال الأسابيع الماضية بعد اكتشاف الإصابة وبدأ رحلة العلاج الدوائي، بدأت في فتح الأمر مع دوائر الذكور الأصدقاء المقربين، وكان مؤسف أن أجد الجهل بكل هذه المسائل مستفحلاً. وبينما نجد اللافتات والحملات الإعلامية والدعائية المجانية لفحص الثدي والتوعية بكل الأمراض الأنثوية التي قد تصيب النساء، لا نجد أي دعاية خاصة بأمراض الذكورة أو البروستاتا أو مشاكل دوالي الخصية. والتي تذكر الاحصائيات أنها منتشرة لدى أكثر من 40% من الراجل.
لقد صدمت من كمية القصص الغرائبية التي سمعتها من أصدقاء ذكور حول الجرائم والكوارث التي يرتكبونها في حق أعضائهم نتيجة غياب المعلومات والجهل بأساليب الفحص المختلفة. صديق حكى لى أن مرة بتجربة دوالي الخصية قبل ذلك، لكنه تجاهل الأمر واعتبر أن الألم الخفيف في الخصية دليل على نشاطه الجنسي وامتلاء خصيته بالحيوانات المنوية (نموذج بسيط لتوضيح كيف تتخيل الذكورة ذاتها)، وبالتالي فالعلاج الذي تفتق ذهنه عنه هو الإكثار من ممارسة الجنس، الأمر الذي أدى إلى تطور الأمر نتيجة زيادة معدلات ضخ الدماء في الشرايين والأوردة. حتى وصل الأمر لمرحلة لم يستطيع معه تحملها، وأصبح عائقاً لدى الاتصال الجنسي، حينها فقط ذهب متأخراً للطبيب بعدما استفحلت الحالة. صديق آخر عبر من تجربة الدوالي، ظل متحاملاً على الألم حتى ذات يوم كان يتبول في حمام عام مد يده يتحسس مكان الألم، وقرر لسبب ما أن يضغط عليه معتقداً أن ضغطه عنيفة قد تريح خصيتيه من الألم لكن بدلاً من ذلك انفجر ألم ضخم في كل جسمه، وشعر بدوار حتي أنه كاد أن يفقد وعيه.
في كل برامج وكتيبات التوعية الجنسية تركز على فعالية القصيب وخصوبة الرجل أو الجابة على أسئلة الذكور الغارقة في الفانتازيا حول كيفية تكبير القضيب أو الحصول على انتصاب دائم، لكن لا توجد أي إشارات أو تعليمات حول سبل صيانة ورعاية القضيب ومشتملاته. صديق ثالث حكي كيف أنه أثناء ممارسة الجنس، مارس وضع ما خاطئ حيث عوج قضيبه بشكل ما، شعر بألم مفاجئ وشاهد قضيب نافر في قضيبة وقد ظهر عليه أثر كدمة. شعر برعب ولم يعرف ماذا يفعل ومن خجله أجل زيارته للطبيب ولم يعرف من هو الطبيب المختص الذي عليه زيارته وبعد يومين تحت ضغوط أصدقائه ذهب للطبيب، لكنه مع ذلك ظل رافضاً أن يخلع أمام الطبيب وهو يحكى حينما لاحظ اندهاشي قال معلقاً (أصل احنا صعايده) والنتيجة بعد حديث وتفاوض مع الطبيب شخص حالته بأنها جلطة في القضيب، وأخبره أن الأمر بسيط ولا داعى لقلق. ضحكنا جميعاً على حكاية الصديق بعدما انتهى منها، لكن خمسة ذكور كانوا في الجلسة أعمارهم تمتد من أول الأربعينات حتي منتصف العشرينات لم يكونوا يعرفون أن هناك شيء اسمه جلطة في القضيب.
الصورة من داخل أحدى الصالات الرياضية في منطقة أرلجتون بفيريجينا، بالولايات المتحدة الأمريكة. من تصويري.هنا حيث تصنع الذكورة- Ahmed Naji – Feb.2019
في الطريق إلى المسرح الوطنى مساء أمس بدأت أشعر أن هناك أمر ليس على ما يرام، أعرف هذا الاحتقان في الحلق، ونحن في شهر نوفمبر المخيف.
وصلت متأخراً إلى مسرح الوطنى بعد أن أخذت أكثر من 20 دقيقة، أبحث فيها عن الباب الصحيح. في النهاية أنقذتنى واحدة من طاقم المهرجان، قادتنى عبر دهاليز طويلة. عبرنا من قاعات صغيرة إلى قاعات كبيرة، مع كل ممر كنا نعبره كان صوت موسيقي مختلفة يرتطم بأذنى.
بدا كأن المكان غابة متشابكة معقدة ممتلأة بالبشر، لم أكن لأصل أبداً بمفردى، لكن بمساعدة السيدة مجهولة الاسم وصلت في الموعد المناسب إلى “قاعة النصر” حيث كان يجب أن اقرأ مع الكتاب والمترجمين الآخرين.
بعد انتهاء جلستنا في “قاعة النصر” خرجت بدون خريطة ولا أعرف إلى أين. كنت أحاول الخروج من المسرح، لكن في الوقت ذاته بدأت أشعر بإرهاق الانفلونزا، وارتفاع درجة الحرارة. فتحت باب ضخم وجدته أمامى فوجدت نفسي في الدور الثانى من المسرح الكبير، جلست على أحد الكراسي لاستريح ثم دخل مغنى كبير السن بصحبة عازف بيانو، كان يغنى بصوت حزين كأنه “سيلين ديون” تغرق فوق سفينة على مقربة من شاطيء لاهاى. درجة حرارتى بدأت ترتفع. الآن كنت متيقناً أنا أصبت بالانفلونزا، وسأقضي ليلية بين الفراش والحمام دون أدويتى، وسط الحمى وهلوساته.
لكن بدأت أشك في أن كل هذا حقيقياً. خرجت من القاعة بحثاً عن باب الخروج، لكن وجدت نفسي في قاعة آخري ترتفع منه إيقاعات موسيقية كأنها عازفين روك يحاولون أن يلعبوا موسيقي البلوز.
في زاوية ما كان هناك طاولة رصت عليها أسطوانات متعددة معظمها كان لفرق وموسيقيين هولنديين، لم استطيع قراءة الأسماء، لكنى أعتقد أن ظللت لأكثر من نصف ساعة أتأمل اللوحات والبوسترات، ثم انتبهت أن جميع جدران المسرح مغطاة بلوحات بعضها فوتوغرافيا وبعضها رسومات زيتية.
تضاعف احتقان الحلق، وبدأت اشعر وكأن هناك نهر صغير يخرج من أنفي. كل ما كنت أفكر فيه هو العودة إلى الفندق. أخذت أبحث عن مخرج، لكن كلما دخلت من باب وجدت نفسي في ممر يفضى إلى قاعة جديدة، أو مسرح صغير.
إذا هذا ما يبدو عليه الأمر بعد عبور الحدود، تختلط الحقائق بالخيال، تتوه معانى اللغات لكن تتبقي الصور التى تخلقها.
أخيراً، وجدت باب الخروج، لكن مع أول خطوة للخارج عطست بقوة. قضي الأمر. كان الجو بارداً لكنى وصلت إلى الفندق. استيقظت في الصباح كأن هناك حجر في حلقي، ذهبت إلى قاعة الافطار حيث قابلت وئام علمت منها أننى لست الوحيد في المجموعة الذي يعانى من أعراض البرد. لكن المشكلة أن أدويتى ليست معى. بعد ترددها المعتاد نصحتنى وئام بالغرغرة بماء دافيء مع ملح.
أشعر بحزن بالغ كنت أخطط اليوم للذهاب إلى البحر، لكن أقسي أمنياتى الآن استعادة صوتى الطبيعى استعداداً للقراءة مساءاً.
كتبت الكثير من الأعمال العظيمة والخفيفة حول الحب. شرارته الأولى، شبقه، استحالته، إخفاقاته، الفراق، الحنين، التراجيديا، الدموع والبعاد، الهجران والذبول ثم النسيان. الأخير اعتبره بورخيس الشيء الوحيد الذي لا وجود له.
المدهش نُدرة الأعمَال العظيمة التي تتحدث عن استمرار الحب. ما بعد اللقاء. الفراغ الذي يملئ الصفحة بعد جملة وعاشوا في هناء وسعادة. يسكن الشوق باللقاء لكن لا دليل موثق لدينا أن الحب ينمو أو يسكن أو يتوقف عن بعث الآلام باللقاء. مهلوسي الميتافيزيقيا تحت دعوى التصوف قالوا يوماً “كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه”. لكن لا نعنى بالحب هنا ذلك الشوق لغائب لا يمكن تجسيده، بل لجسدين، لشوق وحب ينمو بين بشريين محصورين بعوامل الزمن وضغوط الحياة وتآكل الجسد تحت وقع ضربات الحياة والزمن. وإذا استمر الحب بين الاثنين، فلا تأمين أو ضمان للمدى الزمنى لتلك الاستمرارية. وما نقصده هنا لا يتعلق بضمان الولاء الذي يتبع اللقاء، بل بضمان استمرار تلك الرجفة والنشوة التي يبعثها تسكين الأشواق. هذا الأمر خطر يا أصدقائي، هناك صرعى، أناس تنتحر وأناس تموت بسبب الحب، وأحياء تسلب منهم نشوة الحياة، والإنسانية طورت نظم رعاية وتأمين على كل شيء من الأرداف وحتى ناقلات البترول، لكن لم يكلف أحدهم نفسه بوضع كتيب إرشادي لكيفية التعامل مع هذا الأمر الخطير، أو بناء شبكة ضمان وتأمين ورعاية للحب.
كتب أحدهم على جدار مواجه لقسم شرطة حى الزمالك –أحد الأحياء البرجوازية في القاهرة- العبارة التالية: “إن حياة الفرد الأخلاقي تقوم على احتذاء النظام الخلقي الكونى، أما حياة الأوغاد فتقوم على معاكسة ذلك النظام الكونى”. بجوار تتلك العبارة رُسم جرافيتى ضخم لوجه الأسطورة الشعبية “الهرم” وهو يلف بين أصابعه سيجارة حشيش بينما أحاطت برأسه هالة كهالة القديسين.
“الهرم” هو أحد الأساطير الشعبية المعاصرة في مصر، ويصنف في مناطق بصفته إله “الديلارات” والدهاء. وفي مناطق شعبية تباع أيقونات صغيرة “للهرم” عليها الآية القرآنية “فأغشيناهم فهم لا يبصرون” حيث من يرتدى الأيقونة يحميه ظل الهرم من عيون ضباط الشرطة والأفراد الأخلاقيين وكلاب النظام الخُلقي الكونى.
لكن العبارة الفلسفية والعميقة المصاحبة للرسم، ليست من أقوال الهرم. ولم يعرف من صاحبها، ولما تستخدم بجوار أيقونة “الهرم”؟
كان هذا في الفترة التى تلت أحداث 25 و 28 يناير. وكانت جدران القاهرة تعج بآلاف الكتابات والرسومات معظمها ذات صبغة سياسية، لكن جرافيتى “الهرم” وبجواره العبارة الملغزة ظل شرخاً عميقاً في المشهد وهرمونية الروح الوطنية والثورية التى غطت البلاد في هذا الوقت.
** *
هناك أكثر من عالم.
ولكل مسألة أكثر من طبقة وزاوية. في النظام الخلقي الكونى هناك انشغال بالديمقراطية، الثورة، كرامة نبي، فيلم مسيء، كلاب تنبح، ديون وقروض ودول تشهر إفلاسها، صراعات تدور على الشاشة ونشرات الأخبار. لكننا هنا في حياة الأوغاد ندرك أن هذه الأوهام ليست سوى التمثيل الكاذب للحياة.
صورة فوتوغرافية من تصوير أحمد ناجى، تعود إلي العام 2009
بينما يتحدثون في النظام الأخلاقي عن أهمية الأدب والموسيقي في التواصل الحضارى بين الشعوب وحوار الحضارات، ندرك أنه لا حاجة لهذا الدفع أو التوجيه من قبل “النظام” لكى يكون الأدب والموسيقي في هذا الاتجاه.
في مصر نمت في السنوات الأخيرة موسيقي الأوغاد، أو ما يعرف بموسيقي المهرجانات وهى نوع موسيقي يختلط فيه إيقاع الهيب هوب، بألعاب الأصوات الألكترونية بأصوات النجوم الأوغاد. يتم تسجيل هذه الأغانى في منازل وعشش وإضاءة خافتة للشوارع الخلفية، والكلمات منفلتة عن كل الأطر الأخلاقية والنظامية المعتادة.
دون الحاجة إلى التوجيه اكتشفت مؤخراً تشابه غير معقول بين تلك الموسيقي المخلقة في حوارى القاهرة الشعبية، وبين نوع آخر من موسيقي العصابات يزدهر بجنون في البرازيل.
أى حدود يجب تجاوزها إذن؟
الحدود الحقيقية لا تقع بين اللغات المختلفة أو بين الدول ذات أنظمة منح “الفيزا” المختلفة. بل بين نظامين؛
الأول أخلاقي وكونى يفرض صوراً نمطية بين البشر أفراداً وأمماً ثم يدعى بأنهم جميعاً بشر لهم نفس الحقوق وحباً في الخير ومصلحة الكون يدفعهم لما يقول عنه “حوار” قالبه الأساسي التنافس والملكية.
والثانى هو حياة الأوغاد حيث الفرد مكتملاً في ذاته، ويستمد حريته وطاقة المغامرة لاستكشاف الحياة من معاكسة هذا النظام الكونى، لا بهدف تقويضة أو تفجيرة من الداخل، بل من أجل تللك اللذة السرية الصغيرة.
لكن تلك اللذة السرية ليست كل شيء فهناك الجانب الآخر، أو كما يقول أحد سكان المدينة الأوغاد بالعامية المصرية: “في الحالة دى مفيش آمان، حياتك بتبقي زى القمار، طالع نازل، لما تسيب حبة ريح توديك وتجيبك، لما تجريك لقمة عيش أو ريحة خطر، لما تعس نهارك وليلك من غير ما تولف راسك على حيط أو رجلك على أرض، لما الوقت يبقي بالنسبة لك فرصة، والمكان ضربة حظ.. ساعتها وساعتها بس تعرف أنك بقيت وغد..
في تجربة متكررة، يتم ادخل المتطوع إلى جهاز الأشعة المقطعية، وعلى الشاشة يتم عرض مجموعة من الصور لعناصر مُتعددة. تم قياس كل عمليات النشاط الدماغى التي تحدث في الدماغ عند رؤية كل عنصر وتسجيلها. بعد ذلك طلب من ذات الأشخاص إغلاق أعينهم وتذكر ذات العناصر والنتيجة هي تكرار ذات العمليات الكيمائية والكهربائية في المخ. لم توصل هذه التجارب لإجابة سؤال الرؤيا، هل نري بالعين كعضو من أعضاء الجسم إذا اشتكى تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمي، أما نري بالمخ الذي يترجم ويخزن ويخلق العلاقات ويكسب الألوان والأشكال المعانى المختلفة.
ثم تبين أن البعض يمكنهم الرؤية بعيون مغلقة. وجميع البشر يمكنهم الرؤية وهم في حالة النوم على حسب ما يرونه يتم تصنيف الأمر تحت فروع متعددة تنبثق عن بندين رئيسين، الحلم والكابوس.
تمر هذه اﻷيام ستة أشهر على حبس اﻷديب أحمد ناجي بسبب مقاطع نشرها من روايته “استخدام الحياة” في جريدة أخبار اﻷدب، واتهم على إثرها بـ”خدش الحياء العام”. يُعد ناجي اﻷديب الوحيد المحبوس حاليًا في سجون النظام بسبب أدبه، ولكن على ما يبدو فهذا لا يكفي لتفسير اختلاف قضيته عن سائر القضايا في عيني المتابعين. بهذه المناسبة، وبعد أن هدأت قليلًا حدة البيانات الانفعالية المتضامنة، يمكننا أن نحاول اﻹجابة على سؤال “لماذا يختلف حبس أحمد ناجي عن حبس غيره؟”، ما يقودنا مباشرة إلى سؤال آخر: “لماذا يختلف أحمد ناجي عن غيره؟”
شارك ناجي في ثورة يناير، ولكن لم يمنعه هذا أبدًا من اتخاذ مواقف مستفزة طول الوقت لجموع الثوريين. لم يكن ممن انخرطوا بعنف في الاستقطابات التي اشتعلت في مصر عقب الثورة، وإنما كان يقف على حافة الاستقطاب دائمًا ، يتأمل من الخارج حارقًا دم جميع المستَقطبين. وعلى العموم، فقد وصف ناجي فيما بعد مشاركته في الثورة بـ”العمل الصبياني”.
بورترية لنائل الطوخى
طول الوقت يغني الكثير من الشعراء والأدباء للفردانية، ولكن ما أن يظهر على أرض الواقع شخص كامل الفردية، متخلص من ضغط الجماعات المتناحرة من حوله، حتى يشعرون بعدم ارتياح. لهذا كره الكثيرون ناجي؛ ﻷن الفردية الكاملة، رغم كونها قيمة محبوبة نظريًا (انظر لكم اﻹعجاب الذي تُنطق به عبارة “لا يشبه إلا نفسه”)، هي في الحقيقة شائكة وموحشة وغير مريحة، حتى لمن يتغنّون بها.
يشكل القطيع دائمًا حماية للشخص؛ يستأنس به ويشعر بالدفء في وجوده. وبالتأكيد يشكّل تهديدًا للسلطة، فالمجموع أقوى من الفرد بطبيعة الحال، ومجموعات متحدة يمكنها تكسير جدار لا يقوى على تكسيره فرد واحد. ولكن ما نريد قوله إن الانتظام في جماعة ربما أيضًا لا يكون عمليًا في جميع اﻷحوال؛ أحيانًا ما يسهّل القطيع سيطرة السلطة على المعارضة. فلأن القطيع يلزمه رأس، يمكن تشتيته بمجرد نزع رأسه.
هذا يقودنا إلى ثورة يناير، والتي كانت عبارة عن مجاميع ضخمة تتكون من أفراد لا يملك كل منها إلا حسابًا على فيسبوك.
في فيلم “حياة براين”، يتبع المؤمنون براين، الذي يتصورونه المسيح الجديد. يؤكد لهم هذا مرارًا وتكرارًا أنه ليس المسيح فلا يصدقونه، فيصرخ فيهم “ليس عليكم أن تتبعوا أي شخص، أنتم أفراد”، فيهتفون بشكل جماعي ومتجانس تصديقًا لكلامه: “نحن أفراد!” يصرخ فيهم “كلكم مختلفون عن بعض”، فيهتفون بشكل جماعي: “نعم. نحن كلنا مختلفون عن بعض!” يبدو لي كثيرًا أن هذا التزاوج بين الفردي والجماعي كان مفتاح ما حدث في الثورة.
على خلاف اﻹخوان المسلمين، الذين هم أكبر جماعة منظمة في تاريخ مصر الحديث، والتي أمكن تشتيتها فقط عبر نزع رأسها، فلم يمكن هذا بعد مع ثوريي يناير. لا يزال اﻷخيرون قادرين على الإلهام وعلى توجيه المجتمع باتجاه رؤاهم.
“التشتيت” ليس اللفظ اﻷدق. فصحيح أن اﻹخوان المسلمين تشتتوا، ولكن الثوريين مشتتون طول الوقت أيضًا. قد يكون اللفظ اﻷدق هو “نزع السحر”. أمكن نزع السحر عن اﻹخوان المسلمين عبر عزل مرسي، ولم يمكن هذا بعد مع الثوريين. الثورة بلا قائد، كان هذا من البداية إلهام الثورة ومقتلها في آن. وﻷنها بلا قائد، وﻷنها عبارة عن مجموعات مختلفة ومتباينة، تتكون من أفراد مختلفين ومتباينين، لا يجمعهم إلا السخط على الوضع القائم، فقد أمكن لهؤلاء اﻷفراد التسلل في المجتمع، أحرارًا ومرنين، ونزع السحر عن النظام العسكري الحاكم وعن اﻹسلاميين في الوقت ذاته.
في هذا كان ناجي ممثلًا لروح الثورة، أو لروح “الإنترنت”، أو لـ”المعاصرة”. واﻷخيران، اﻹنترنت والمعاصرة، كانا حجته الدائمة. يكفي أن يشير ناجي إلى نظرية بأنها قديمة، حتى تبدأ مجموعات من حوله في الانفضاض عنها، تتبعها مجموعات أخرى أوسع، وهكذا.
المؤسف والمعقد أنه كما كان ناجي فردًا كاملًا، فقد أتى التضامن معه فرديًا أيضًا. بعد فورة البيانات القوية لم يعد يشير لناجي إلا أشخاص معدودون. رغم محاولات اﻷدباء لتنظيم حركات تضامن واسعة، على غرار الحركات التي تطالب بالحرية لفلان أو لغيره، إلا أن شيئًا في وعي المتضامنين كان يشير إلى أن الموضوع مختلف قليلًا. كأن ناجي لم يرغب هو نفسه في هذا التضامن. أو كأن التضامن الجماعي هو ضد مشروعه باﻷساس.
هذا هو العيب الأساسي للفردية، كونها غير قادرة على توفير الحماية لصاحبها. قد تحميه فكريًا، ولكنها لن تحمي جسده من الإيذاء على يد السلطة.
***
اﻵن يبدو طبيعيًا أن يُحبس ناجي بسبب كتابته، ولكن هذا ليس إلا بأثر رجعي. قبلها، لم يتخيل أحد من أصدقائه أو المتضامنين معه إمكانية حبسه. ظل ناجي وحده في مكان بعيد عن الصراع السياسي الدائر، وبالتأكيد عن اﻷحكام بالحبس، ﻷنه فرد أولًا ولا يعبر سوى عن وجهات نظر شديدة الفردية، وﻷن في سجالاته شيء شديد الشبه باللعب.
بعد حبسه، خمن الكثيرون أنه حُبس ﻷسباب لا علاقة لها بالبذاءة، وإنما لأسباب سياسية، في محاولة ربما للتقليل من شأن قدرة البذاءة على استفزاز السلطة. ورغم وجاهة النظريات المطروحة، فقد كان التفسير اﻷبسط أكثر إقناعًا؛ ناجي محبوس بسبب الألفاظ البذيئة التي استعملها في كتاباته. رجاء عودوا إلى الفصل المنشور وفكروا، هل يمكن لمصري من الطبقة الوسطى، مصري غير مثقف ولا يؤمن بحرية التعبير، ألا يغضب من ألفاظ كهذه؟ ثم السؤال التالي: ماذا سيفعل شخص كهذا إن وجد نفسه يملك سلطة الحبس، وهو يقرأ الفصل المنشور؟ سيستخدم السلطة التي يمتلكها بطبيعة الحال. وكل الكلام (الدستوري) حول “الحق في التعبير” و”حرية الرأي” و”لماذا يؤخذ الكلام إلى المحكمة”، لن يعدو أن يكون رطانة بالنسبة له، قبيحة أو جميلة، ولكنها في نهاية الأمر رطانة تتحطم أمام هذا الولد الذي يحتاج لإعادة تربية من جديد.
في هذا السياق، لا تمكن اﻹشارة لشخص أحمد ناجي بدون اﻹشارة لسخافاته المتكررة. بدا ناجي طول الوقت كأنه يأخذ موضوع “التساخف” كلعبة مسلية، حتى وإن لم يخل تساخفه من منطق ومن ذكاء في كثير من اﻷحيان. كان قادرًا على تحويل أي رأي جاد لمسخرة بكلمتين، وعلى إحراج الكثيرين ممن بذلوا مجهودًا ضخمًا في صياغة نظرية ضخمة بكلمة واحدة. وفي المقابل، بدأ الكثيرون مع الوقت أيضًا ينمّون مهارة التعامل مع سخافاته، حتى أصبح التساخف والتساخف المضاد لعبة مثيرة بالنسبة لنا، نمّت ذكاءنا وعلمتنا أن الآراء لا ينبغي أن تقال بسبب الوجاهة التي تمنحها لقائلها، ﻷن ناجي (ومعه الإنترنت) قادران على هدم هذه الوجاهة في ثانية.
ما حدث بالضبط هو أن شخصًا أتى من الخارج، بلا أي معرفة بقواعد اللعبة، فمزق أوراقها وحبس لاعبًا فيها. هذا التفسير الأبرز لإحساس الصدمة وعدم التصديق لدى الكثيرين من حبس ناجي، بالأحرى لدى الكثيرين ممن تساخف عليهم ناجي سابقًا؛ هناك شيء ما انتُهك في القواعد؛ ناجي ينتمي للمساحة التي نلعب فيها، لا المساحة التي يلعبون فيها.
هناك بالطبع الكثيرون ممن تساخف عليهم ناجي وهاجموه بعد حبسه، وهذا طبيعي، فأحيانًا يرغب المهزوم في اللعبة بأن تأتي السلطة وتعتقل المنتصر. ولكن اﻷغرب هم هؤلاء الذين لم يحتك بهم ناجي أبدًا، ولم يطب لهم الهجوم عليه إلا بعد حبسه. ربما خافوا من احتمال أن يتساخف عليهم في المستقبل؟ ربما كان وجوده مريبًا بالنسبة لهم، حتى مع عجزهم عن تعريف سبب الريبة هذه؟ ربما أحسوا أنه ابن ثقافة معادية لهم بالضرورة؟ على العموم، كثيرًا ما يجتمع الجبن والنذالة في نفس الشخص، ولا ينبغي أن يشغل المرء باله بهذا النوع من الجبناء اﻷنذال، ﻷنهم في الغالب تعساء أيضًا.
***
بالإضافة لفرديته، فناجي ليس شخصًا واسع التأثير كذلك. لا يظهر على التليفزيون، ولا كتبه تباع بعشرات اﻵلاف، ولا يملك منصبًا حكوميًا عدا عن كونه صحفيًا في جريدة “أخبار الأدب” النخبوية. لا يملك إلا حسابًا على فيسبوك وآخر على تويتر، ومقالات يكتبها كلما عنَّ له.
ربما يكون عميق التأثير، ولكن ليس واسعه، أعني أنه ذلك النوع من اﻷشخاص الذين يتسرب تأثيرهم إلى من حولهم، بفضل طزاجة منطقهم فحسب، وليس بفضل احتلالهم مواقع واسعة التأثير بطبيعتها. هذا أيضًا واحد من أسباب اﻹحساس بالصدمة لدى من يعرفونه، ﻷنه لا يُخشى من تأثيره السياسي الواسع، وﻷنه لم يدع أي دور قيادي.
ركز ناجي سهام سخريته كثيرًا على “المكانة الاجتماعية”، حطم مكانات اجتماعية كثيرة لأناس حوله بمنتهى البساطة، ومع كل هذا، فلم يدعِّ الزهد والصعلكة، على غرار شعراء الستينيات مثلًا، بل كان دائم التغني مثلًا بأهمية الفلوس وبأن يحيا المرء حياة جيدة. بعد رحيل البرادعي لفيينا مع ما أثاره هذا من خذلان في قلوب محبيه، حياه ناجي بحرارة على صفحته الشخصية ﻷنه قرر أخيرًا أن يعيش حياة مريحة كبرنس معه فلوس.
إن كان هناك هدف رئيسي لناجي يؤمن به فهو التقدم، وإن كان لهذا الهدف تكنيك فهو الصراع. كثيرًا ما أخذ يردد في السنوات اﻷخيرة: “الصراع دينامو التقدم”. ويبدو لي أحيانًا أن التقدم كما يعنيه هو أن يفكر البشر من حوله في أشياء لم يفكروا فيها من قبل. وهذا ليس أمرًا سهلًا أبدًا، وإنما يمر عبر طريق طويل من استفزاز العقل والتساخف المستمر، وكان ناجي شديد المهارة في كليهما.
أثناء اعتصام ميدان التحرير الممتد لـ 18 يوم والذي أطلق عليه بعد ذلك ثورة 25 يناير. كنت في طريقي من 6 أكتوبر إلى ميدان التحرير حينما لمحت على الوصلة بين ميدان جهينة ومدينة الشيخ زايد فتاة تسير على الرصيف وترتدى بدلة غطس كاملة. أعنى بدلة ذات لون أسود، خزانة أكسجين في الخلف على ظهرها، نظارات مائية ضخمة، زعانف في الأقدام، حزام رصاص حول الخصر، كانت تسير بهدوء كأنها فوق مياة البحر الأحمر. توقفت عند بقعة ما وبدأت في إزاحة غطاء المجاري. اقتربت بالسيارة منها. توقفت على بضعة أمتار وفتحت النافذة مذهولاً وهى ببساطة تقفز داخل فتحة المجاري ثم تسحب غطاء البلاعة الثقيل كأنه ورقة وتعيده لمكانه خلفها وهى تختفي ببدلة الغوص تحت الأرض.
غاب مشهد فتاة الغواصة عن ذهني في مقابل ما كنت أراه طوال تلك الأيام، كما أنه لم يجد سياقاً مناسباً وسط أحاديث الأصدقاء والشئون والنميمة السياسية. ماذا تفعل؟ ماذا تقول؟ يعنى هتقعد وسط ناس بتحكى عن مؤامرات الجيش والجنرالات والرصاص وقنابل الغاز وأنت تقطع هذا الحديث الشيق المفيد وتحكى مشهد فتاة ترتدى ملابس الغوص وتختفي في بلاعة مجاري على محور 26 يوليو.
بعد تنحى الرئيس طلب منى أحد الأصدقاء وهو مصور يعمل مع الوكالات الأجنبية المساعدة في سعيه لانجاز قصة عن أصحاب الخيول والجمال أبطال موقعة الجمل الشهيرة، تطلب الأمر مشاوير وأبحاث طويلة. رفضوا التصوير أو الحديث لكن في محاولة أخيرة قررنا زيارة المنطقة.
الزيارة كانت محبطة، وأنا شخصيا لم أكن متحمساً للموضوع. جلسنا على أحد المقاهى لشرب “سبرايت”. فجأة حانت منى لفتة للوراء شاهدت فتاة البلاعة، وهى تزيل نظارة المياه من على وجهه، وبجوارها أسطوانة الأكسجين، طلبت شاى خفيف سكر برا. رغم أن المكان كان قهوة شعبية ليس من المعتاد أن يجلس عليها النساء. لكن كل من كانوا في المنطقة كانوا يتعاملون معها بأريحية وكأنها جزء طبيعى من المكان، عامل المقهى وهو يضع الشاى تبادل منها بعض الجمل لم استطع تبينها. صديق اندهش هو الآخر وقرر التقدم ومحاولة فتح الحوار معاها لكنها رفضت بعنف. ثم قامت وحملت أسطوانة الأكسجين وقررت الانصراف دون حتي أن تحاسب على المشاريب، كأنها زبونة دائمة ولديها حساب مفتوح.
يقال أن الديك. هذا الحيوان ذو العرف الأحمر الأليف كدجاجة تمتلك قليل من عزة النفس، هذا الطير النبيل ذو المنقار الحزين، يقال أنه يبيض.
بيضة واحدة في العام. حتى الأسطورة الواقعة بين المعلوم بيولوجياً والمتردد كسراب فولكلوريا لم تمنح الديك غير بيضة واحدة. أي مأساة هذه؟
تخيل كل مرة يشعر الديك بحرقان في معدته أو فتحته الشرجية يشك أن هناك بيضة في الطريق، لكنها في الوقت ذاته قد تكون وهماً. بين الشك والحيرة في رشاقة ينتصب على خيط رفيع. الديك أيضاً مضطر لأن يجد نفسه في عدد من المواقف غير المفسرة. مَدفوعاً بكيمياء بيولوجيا يظل يصدر صوته المحير “كوكاديل.. كوكو كوكو”. وأن يتحول مزاجه من الحالة التأملية الواقف فيها شامخاً أمام الشمس في غروبها إلى حالة بهيمية يطارد فيها الدجاج ويقفز عليهن هنا وهناك.
من تصويري 2012
أيها الديك النبيل!
أي مصير تعس كان يجب أن تدفعه، من أجل أن تحفظ مكانتك منتصباً، عزيزي ذو البيضة الواحدة
اجلس ها هنا
دعنا نشرب سوية، فالزجاجة لا تزال ممتلئة
والشوارع ليست طيبة في الخارج
هاهو المعطف يحترق
فلا حاجة لكى نأخذ الشمس في قلبنا، ضعها هنا فوق المدفئة
علها ترغب بقليل من الراحة
الشمس متعبة عزيزى الديك
فقط هذا مصيرها.. مثلما هذه مسيرتك
1
كان هذا الشتاء، وفي إطار مسيرتنا البائسة كنا مضطرين لقضاء ليلة رأس السنة في مدينة البؤس المتجدد “المنصورة”. والإرهاق مسيرة أنهار تحفر مجاريها على الوجه. بنوا أمام مبنى الجامعة عمل ما يفترض أنه ينتمى إلى الفن الحديث يتكون من مجموعة من الكتب الضخمة مصفوفة في ميدان ليس بالميدان، وعلى أطراف المدينة المختنقة ببؤسها وحزامها الزراعي حملت بين يدي نسخة مما سيحمل بعد ذلك عنوان “روجرز”. لم أكن أعلم ما الذي يمكن فعله بهذه الجثة.
أمسكت الملف بين أصابع يديها، وكانت أظافرها قصيرة حيث اعتادت أن تأكلهم لسنوات كما بهيمة الصغيرة داخلها مجرة كبيرة. وكنت أعرف وأبحث عن باب للمحيط من خلال ابتسامتها. كان المشروع الذي حلمت به طوال سنوات المراهقة والجامعة ينهار بين يدى بعد اكتماله، يتبدى سخيفاً كما “الكلوت” الذي ارتدته أول مرة نمنا فيها مع بعضنا البعض.
ويا إلهى، تخيل بعد كل هذه الأعوام، يأتي التافه كما “المذى” يتساقط من الزب “كينى ويست” ليقولها حقيقة على قد ما تبدو صادمة، سطحية في الوقت ذاته.
ما من كنيسة هنا عزيزى الديك لتتصدر المشهد
ما من زخرف
لا متاع
لا لهو
لا صياح
لا رقص
.. أو موسيقي ميتة
هذه القصة صارت من قديم الزمان، هذه القصة صارت من أعوام.
من حفل توقيع إطلاق رواية روجرز 2007
2
هذه الرؤيا..
حوت يسبح نائماً كمن في سراب حلم لنجيب محفوظ، يحمل فوق ظهره جمل من النوع ذو السنام الواحد، عليه ديك أشقر زاهياً بحزنه، وبخيط الدم السائل من جرح في فتحته الشرجية.
3
كان (ش) زميلاً في الدراسة وشخصية للآسف تفرض نفسها في حياتى لأسباب يطول شرحها. في الوقت ذاته ابناً لعائلة بنت متناكة تعمل في مجال المقاولات في الحى العجائبي المعروف بدار السلام، وكان ل(ش) أخاً ابن متناكة أحياناً ما يظهر معه زائراً لشقتى المشتركة وقتها. وكنت مضطراً لتقبل صحبة ابن المتناكة أخو (ش) بسبب ورق البانجو الذي كان يحضره معه.
ولقد حاول أخو (ش) إغوائي دوناً عن كل الناس لسبب ما أكثر من مرة بتجربة “الانجكة”، إلا أننى لطالما قرفت من ابن المتناكة، وأى حاجة من طريقه أو سكته.
ثم أن ابن المتناكة كان يحكى كيف أن أحد العاملين في مخزن من مخازنهم اختلس ما يوازى تقريباً 500 جنيه، فقاموا بتكتيفه وسجنه في أحد المخازن لبضعة أيام وتعذيبه ثم إطلاق سراحه.
لا أعرف لماذا شعرت بقرف بالغ من ابن المتناكة هذا، لا بسبب الشغف الذي يحكى به عن التعذيب بل لتفاهة العمل كله، أتذكر أنى قاطعته بينما يحكى:
-هو حد فيكم يا زميلي في الحفلة دى ناك الواد دا؟
انقلب وجه فجأة للون الأحمر، توتر الجو في الغرفة وكان هناك جوب، واللى معاه الجوب مش بيحور.
نلتقي بعد الفاصل..
4- ذكر ما جرى في “مجاز الباب”
تقدمت امرأة للقاضي تشكو له قسوة زوجها في معاملتها، فلما استوضح القاضي الشهير ببسمته الودودة، كشفت المرأة عن سروالها فبان على مؤخرتها آثار أصابع وضربات ولون أحمر وما يشبه الجروح. كانت المرأة ذات بشرة بيضاء، تزداد نوراً فوق نور عند كفلها، كأنها قبة وتحت القبة شيخ كما قال مولانا.
هز القاضي رأسه، وربت بيده اليمنه فوق كرشه الصغير، حيث يحتفظ في معدته بتمثال لبوذا -الشخصية الفلكورية الهندية- ثم هز رأسه بمعنى “سننظر في الأمر”. وبعث في طلب الرجل، أجلسه أمامه وأخرج “خيرزانة” وضعها بجوار ساقيها، خاطب الراجل “لماذا تضرب امرأتك”. رد الرجل “حاشا وماشا سيدى.. لم يحدث فأنا أحبها”. أجاب القاضي: “لكنها أرتنى آثار الضرب وأصابعك”. رد الرجل “هذه أصابع الحب سيدنا”.
بهت القاضي، ولم ينطق البوذا في كرشه محتاراً.
5
نظر أخو (ش) ابن المتناكة لى شذراً، هذه النكرة، حثالة طفيليات المجتمع المصري من همل ورعاع، وقال:
-لا طبعاً.. استغفر الله، أنت مجنون يا ابنى… تلميس الطرابيش دا حاجة يهتز لها عرش الرحمن عز وجل من فوق سبع سماوات
مددت يدى وتناولت الجوب من يد كس ام ابن المتناكة، أخذت أول نفس بهدوء، وقلت:
-تصدق.. أنك ابن متناكة
جورج وسوف
6
صحيح..
وليه يا حبيبتى نسمعهم؟
7
ليل/خارجى
زقاق ضيق أمام مقر جريدة الفجر- حى مونفلورى- تونس
سيارة شرطة تصل إلى الزقاق، لا صوت أو حركة لكن كل العيون تتابع وهى تكتم أنفاسها من النوافذ، تترجل من السيارة شرطية “زبورة” زميلها يتبعها، غير مقدر لخطورة الموقف عيونه تتبع مؤخرتها في السروال الضيق، تتقدم الشرطية “الزبورة” من قوة التدخل إلى البناية التي تقع فيها مقر جريدة الفجر التابعة لحزب النهضة الإسلامي –انيكك تقول تانى- أمام البناية تتمدد جثة السياسي اللامع ذو المعجزات البارع الحبيب اللوزى، ممدة كمن مات للتوا برصاص القناصة، لكن سبحان الله ما من دم يخرج من أي مكان.
تتعجب الشرطية، تقترب منه مهرولة:
-سي الحبيب، اسم الله عليك، اللطف عليك.. سى الحبيب..
تركع الشرطية وتجلس على ساقيها وتأخذ رأس سى الحبيب بين فخذيها، تهدده كأم رؤوم تشرب الروم –أنيكك حتى لو انت مش مخروم- ، سى الحبيب فجأة –صلى .. صلى- يستفيق من غفوته كحوت يشرق من تحت الماء والشمس تغرق للمنتصف في رحلة الغروب.
هذه نهاية كل بدايات وملذات البهجة عزيزى الديك. هذا ما لديك، القلق وحتمية الأفعال.
تفتح الشرطية أزرار قميصها، تخرج نهدها محلاه، يتلقف سى الحبيب الحلمة ويأخذ في مصة، يستفيق الحبيب كعنقاء تشرق من رماد أعمدة قرطاج –تشبيه بليغ- يقف سى الحبيب، والمرأة الشرطية تحت قدميه، نهديها عاريين والشرطى يركع بعيون دامعة، وسى الحبيب يضحك:
-نيك رب زب أمكم، استغفر الله العظيم، كانوا فاكرين أنهم ممكن يغتالونى.
8
أوه.. ايت تيرنس مى أون.
9
في إسطنبول، وقت متأخر ربما قبل شروق الفجر، كانت ترتدى شورت جينز، نحمل في حقيبتها مشط زجاجة ويسكى وزجاجة ماء صغيرة، نغادر “استكلال” ونسير في حارات شعبية فرعية بعيدة، حتى نصل لشارع رئيسي، هناك بارات شعبية، أكشاك، مواقف للميكروباص، ولا نتوقف عن الضحك رغم آلم الأسنان الذي يضغط على فكى.
فوتوغرافيا: boris-mikhailov
وهناك تلك الرائحة، الشيء الأكثر ازعاجاً في إسطنبول في كل حى تداهمك رائحة لشيء ما، تنظر حولك فلا ترى آثر له، “يشار كمال” تحدث ذات مرة عن هذا المذاق الكثيف لرائحة إسطنبول. قد تكون في سلطان أحمد فتشم رائحة مصانع الجبن القريش المصري ولا تجده، قد تكون صبحاً في استقلال فلا تجد أي آثر لأشجار الياسمين، والآن كنا ليلاً فداهمتنى رائحة تفاح أخضر، ولا تسألنى بكس أمك ما هي رائحة التفاح الأخضر.
ثم كان أن وصلنا لحديقة صغيرة، وبينما يدى تعانق خصرها الضيق قالت: “عايزه أعمل بيبي”
وقفنا في الحديقة، سكارى كما أسلاف قدماء في بحر من خمر الجنة، نظرنا حولنا وتأكدنا من خلو المشهد، وتصنعت كأنى أدارى عليها، بينما أزاحت هي الشورت وجلست لتبدأ في التبول. خيط أصفر كان يخرج من كسها على العشب الأخضر. جلست وفتحت بين فخذيها، رفعت حاجبيها فوق عويناتها كمن يراقب في الظلام، وحينما التقت عيوننا ابتسمت وانهمر الماء من كسها، كأنها تلك الطمأنينة الأبدية بينكما.
وداخل أحد القصور السلطانية تمددت على العشب في الشمس، والشبق والرغبة سلسلة مربوطة بمرسي حديدى عملاق تجرنا إلى الأسفل نحو أعماق الباسفور.
وضعنا في ذلك الوقت النواة الأولى لمتحف ألعابنا الجنسية، وبهذه المناسبة حملت لها “فايبروتر” مرصع بزجاج ماسي، ورأس جلدى صلب. وحينما ودعتنى في موقف الميكروباصات، قبلتنى على خدى وأكدت: “أنا أخدت الفايبرتور”..
هل مازال يهتز؟ هل مازالت الرعشة المنتفضة تفعل فعل مداهمتها، هذا جيد، على الأقل أحدنا مازال حياً وقادراً على ممارسة الحياة.
10-أشياء مؤسفة عن النجاح
+لن تعرف الصبر ولا لذته المازوشية.
+الوفاء فقط يشمل القضايا الخاسرة.
+الجسد يشيخ، ولا شيء يعوض ذلك.
+فراق الحبايب أصعب من طلوع الروح.
+كل ما هو خارج من مجتعمات إنسانية مخلقة في إطار النظام العالمى المعاصر لا يعول عليه.
+حتى من سيتحملك لن تتحمله لذا لا تحمل في انتظار مقابل، دينك ستدفعه غداً إن لم يأخذك ملاك الموت.
+كفاية عليك، وابقي تعالى بالليل وأنا أوريك الويل.
11
نظرة آخرى على إعادة تعريف الإنسان “البضائي.”
12
بلاد العجائب في أليس، نسخة انجليزية في مترو القاهرة. فتاة الإشعاعات تتحدث إليكم من خارج المجرة.
13
طيب ماخدتش.. ماخدتش.
أحمد عدوية
14
في تلك الليلة، سترت كسها باندر وير أسود، ووضعت ما يشبه الشال الملون بخطوط ما بين الأحمر والأزرق والكحلى، شدت شعرها وربطته خلف رأسها، بانت عظام وجهها، والذقن المثيرة للأكل. هل من حنجرتها؟ هل من ضوء الأباجورة الخافت؟ هل من أشجار الياسمين؟ هل من شعر السجادة الذي يحتاج إلى الحلاقة؟
من أي مكان “هل” كان يأتي الصوت كأنها صوتها شافيلا في أغنية قمرنا، وكانت كل الطاقة في جسدى تنسحب من الشرايين، ولا شيء أملكه.
15
وفي تلك الصباحات حيث البسمة قريبة. استجمع الطاقة التي تتبدد من الشرايين، وصوت عبد الفتاح جرينى وقصي يأتى “وأنا بشكى بصوت قلبي للنسيان.. إلخ”. أقول كل هذا الركض اقترب من النهاية ويبدو الشاطئ كما يقولون قريباً.
16
إذا تكلمت بضانى فسوف تقول أن أكثر ما آلامها، ويؤلمه في هذه المسيرة هو صور ادعاء المثالية الزائفة؟ ببساطة لأن الحقيقة عمرها ما تموت يا آكوكو…
17
تأخذ المدونات مساحة بين ما هو خاص وعام في شيطنة عجيبة يصعب مقاومة إغرائها ويصعب مقاومة ادعاء أنها لا تفتح الباب لسجل لآثار حوافر البوم والخفافيش والحداية وغيره من الطير الجارح.
18
وبينما أحمل “صبارة” صغيرة، وأبحث عن مكانة لكس أم الباركنج في كس أم القاهرة، ينفجر صوت عدوية وعيونه تنظر للدور السابع والعشرون ويقول “شباكها من ستاير/ ومزيانة عنابية”. أعثر على مكان فارغ ويظهر وحش الباركنج ليأخذ المفتاح، ينتقل عدوية وخلفه الكورال النسائي “نظرة.. نظرة فوق، ونظرة تحت.. ياللى فوق”.
لكن يا عدوية اتجه نحو الأسفل، هاهى المدينة وكل المدن التي عبرنها معاً خلفي وأنا اتجه لأرض آخرى تحت البحر. كل المدن أعنيها يا عدوية؛ بداية بهامبروج الحبيبة حيث غنيت موال الخسيس، وخبرتنى يا مولانا: “الصاحب اللى يخون عيشك/ لابد يوم تنساه.. والخسيس خسيس مهما الزمن علاه” والله عليك يا أبو السعود وزمن الأكورديون.
وفي أوستن تكساس بينما الطفيلية البترولية يخوض الانتخابات ضد أوباما لكزتنى مذكراً: “قال دا في حد فيها مخلد.. / قلت له لأ،
قال أيه يكفي ابن آدم/ قلت له طقة
قال أيه يعجل بعمره/ قلت له زقة”
وفي باريس يا عدوية في ليلة باردة في محطات مترو حقيرة قلنا “تيك.. ايت إيزى” بالراحة بشويش كله إلا الجيش، دخلته وحياتك يا عدوية، ووهبت قلبي ونفسي راهب في معبد تلك الأرداف العظيمة، وكان هذا الشروق اللامع لشهوة الحب الضائع.
ونحن نصعد هذه السلالم في بيروت وأنت تقول: “والله لأجيبك برضاك يا بلح/.. يا ما جرالى/ واطلعك فوق قصر عالى.. يا بلح/ بربعامية سلم.. وكل سلم عليه بنت بتوحد الرحمن.. يا حاللى”.
19
يإلهى كأنى أفهم فيلم “دعاء على حس الكلاب” لشريف العظمة رغم أنى لم أشاهده.
20
بيبي، لماذا يتوقعون أحاديث سعيدة بعد الثورات؟
لقد كنا هناك، وسط الرصاص وقنابل الغاز ولم يكن شيئاً جيداً، عرفنا ذلك منذ البداية وتبادلنا القبل وقت الحظر. كأنه الفراق، كأنها مواساة.
من أرشيف مظاهرات التحرير من 2011 – 2012
21
يأتي أحمد عدوية كأسطورة متكاملة، محمية ومدججة بالتاريخ والحكايات الخرافية كما كل الأساطير. أتذكر أنى كنت طفلا ربما في الخامسة أو السادسة حينما كان سائق السيارة التي تقلنى من المدرسة إلى المنزل يشغل أغانى أحمد عدوية، ويحكى عن السلطان عدوية الذى تترمى النساء تحت قدميه، ويرتدى جزمة ذات كعب من الذهب.
وحتى بينما اعبر بمرحلة الموسيقي الأجنبية والروك وغابات الميتال مراهقاً، وحتى حينما وصلت لمرحلة الاستقرار الموسيقي، فطوال هذه الليال والأيام.. عدوية هو السلطان، وأينما ظهر طيفه فلا أملك إلا الخشوع، وتجميع شذرات الحكايات والأساطير والاستسلام لهذا الخدر الخفيف الذي يتسلل كسم مثير للشبق ومهيجاً للروح من صوته وأغانيه.
أحمد عدوية هو الأسطورة الوحيدة التي عرفتها منذ طفولتى المبكرة وحتى الآن لم تهتز لحظة، ولم يخفت وهج تأثيرها، أو إشعاع روحها، بل يزداد وهجاً على وهج، ونور على نور.
وبينما أكتب هذا النص لموقع “معازف” المتخصص في النقد والانطباعات والمتابعات الموسيقية أشعر بحرج بالغ لعجز منطقي العقل وحسي النقدى في كل ما يتعلق بعدوية، وضعفي أمام الخدر والدلع الذي تثيره الصور والذكريات والمترادفات بمجرد ذكر اسمه مولانا السلطان طويل العمر يطول عمره.
أشعر أيضاً أن تلك اللحظة لم تأتى بعد. لا لست مأهولاً ولا قادراً على الكتابة عن عدوية، لا أبسط قواعد المنطق المعرفي، ولا الشجاعة للجرأة على المقدسات الوجدانية امتلكها للكتابة على عدوية، لكن ها هنا.. أخصص هذه المداخلة لموال بسيط لعدوية، وقعت في سحره على مدار سنوات، ومازالت صوره تتجدد وتتغير وتكشف عن عمقه ما يجعلنى دائماً غارقاً في سحرها الساطع كما الشمس على سطح البحر..
يفتتح موال “يا نجمة يا أخت القمر” بإيقاعات كهربائية ذات روح سبعانيه، كأنها شفايف “الكوكوروتشي”. وهناك في الخلفية كمنجات، ورق، وطبلة، ومزمار، وأكورديون، حفلة جنس جماعى خافتة تحتاج إلى تركيز وصفاء تأملى عالى، ثم يدخل صوت عدوية شاباً لكن كأنه رآى كل ما يجب وما تنفع رؤيته.
“يا نجمة يا أخت القمر/ قولى لى مال بختى../ بقول يا نجمة يا أخت القمر..” عدوية محتار من البغددة، والأكورديون تحت ذراعى وفوق صدر وكرش الرايق دايماً حسن أبو السعود، يلعب في تقاطعات كأنما سكران يصعد سلالم أحلامه نحو الشمس بعد طرده من بار رخيص.
وفي النسخة الأكثر شهرة تلعب تقنيات “الاستريو” كما في معظم أعمال عدوية بعداً سرمدياً، خصوصاً مع القفزات التي يقوم بها الأورج ليخرج نغمات فضائية، يا إلهى هذه كانت ذات الفترة التي خرجت فيها أفلام كاميرون وحروب النجوم والمجرات، وعدوية يسير فوق سراب، يدخل الكهرباء إلى فن الموال، ولا أحد في هذا العالم الحقير يرفع ولو حتى القبعة شكراً..
وعدوية لا ينتظر، هو يعرف مصيره كما أي أسطورة من الدراما الإغريقية؛ “إن كان نصيبي كدا/.. أنا هرضي بنصيبي” وما الذي قد ينتظره سلطان كعدوية ملك الليل المتوج لعالم لا تحلم حتى أن تقف أمام بوابته.
أسطورة آخرى سأعرفها حينما أكبر كان عدوية يدخل شارع الهرم الساعة الثامنة، يخرج منه الثامنة صباحاً بعدما يكون قد طاف وبارك كل الكباريهات في شارع الهرم. ينحنى عادل إمام ويقبل رأس السلطان، وفي لندن يستوقفون الملك بينما يشرب كوب الشاي الصباحى ليحصلوا على توقيعه.
موال “يانجمة يا أخت القمر..” جوهرة فريدة من جواهر عدوية التي يلقيها كما طير عبر يوماً بوداى خلف جبال الوقواق وعادى ليلقي بإهمال الأحجار الكريمة التي تعكس أشعة الشمس فتضايقه، يخاطب عدوية الحلو بأسلوب شاعرى يتلاعب بضمائر المخاطب لينتج متاهة مُتشَابكة ترتفع بالمستمع لأفلاك عابرة “من بعد نوم العلالى.. يا بلح/ نيموك على الخوص.. ياما جرالى/ والله لأجيبك برضاك يا بلح.. يا ماجرالى..
واطلعك فوق قصر عالى يا بلح
بربعامية سلم..
وكل سلم عليه بنت بتوحد الرحمن
يا حاللى….. “
بين كل جواهر أحمد عدوية تقف يا بنت السطان كحجر جهنمى مجرد التفكير في مسه كفيل بإشعال النار في خلايا مخك الرمادية، هذه الجوهرة يقف عليها عدوية شخصياً في المقدمة حيث الزفة البلدى يقول: “واحد.. اثنين.. ثلاثة.. أربعة، بص شوف عدوية هيعمل أيه../ الشنجر بنجر نو عدوية هيملا الجوا/ الشنجر بنجر نوا.. أحمد هيملا الجو”
لكن بالضبط خلف هذا البناء الشامخ لموال وأغنية يا بنت السلطان الأسطورية، يقف موال “يا نجمة يا أخت القمر” من السهل التقاط الإشارات بين الأغنيتين، وهذا التردد للروح الكهربائية الشعبية، تلك القفزة الأسطورية التي حققها عدوية مبكراً كمن يرفع كأس تكيلا في دفعة واحدة دون ملح أو ليمون لأنه صاحب معدة مدربة على براندى 84 المقدم في قاع كباريهات وسط البلد بالقاهرة المدينة الأكثر وحشية في دائرة قطرها قارتين على الأقل..
هذا هو قاع أرواحنا القاهرة يا عزيزى.. أحمد،
وسط كل هذا الضباب الكونى، حيث “يوم يجى عقلك في راسك ويوم بيتوه”، وحيث تنعل البحر وسأم موجه الأبدى، يفتح عدوية ثقباً في السماء، عمل فريد من نوعه يمكن وضعه بجوار “استار واى تو هيفن” لليد زبلين أو الويش يو هير للبينك فلويد..
أنك تصعد في هذا الموال نحو جنة في قصر مشيد بقمة جبل مرتفع خلف وادي عميق، تحتاج للجلد والتجلى وقلب شفاف لكى تقبض على روح الموال الصوفي المطعم بالبلح، والخوص. وهذا التقشف وتلك الرغبة في التحقير الذاتي التي تنقلب فجأة لتحدى بأنى سأجيب كس أمك في مشهد مهيب..
كيف يمكن أن تحى فرحاً تتزواج فيه النجوم التي تخلق المجرات والأساطير يا عدوية؟ كيف لك أن تخلق النجم أوميجا الذي عنه تنبثق ملايين الشموس والنجوم المنفجرة والمجرات الآخرى..
أربعائمة سلمة يجب أن نصعدها معاً يا حمادة، وفوق كل سلمة بينما يزفنا أكورديون أبو السعود، هناك بنت بتوحد الرحمن..
صلى على النجوم الزاهرة.
لوحة لـ : Henri-Matisse-
22
انظر خلفك..
هاهى أعمدة الملح شامخة
وهناك “روج” على شكل شفاه كأنها يمامة تتعلم التقبيل فجأة وسط عاصفة
غارقة في المطار
ومغامرات ليلية مع زك أم الشرطة وقوات التدخل وأضوائها العالية
بينما نعبر بحيرة من الماء داخل “الكرهبة”..
جثة جاك كرواك تطفو محترقة
كأرنب على وشك الموت.. لا أنبت بشفة
ولا صوت يخرج من الحنجرة
فزعنا أغلق النافذة.. كرواك ميتاً في بحيرة من مياة المطر
و “مونى مى” تستغيث من هولوكست في القلب
…
ليلة الشموع
هذه ليلتى… أو كما حكم علينا الهوى..
…
هذا الثور المذبوح،
خصيتاه قرباناً.. لرحيق أنفاسك،
لا يوجد “يوتيرن” على طريق المحور عزيزتى –غزالة ترعى-
لا مفر..
ضعى القبعة،
فهذه الشمس
لا مفر..
ارتدى وشاحك،
فالسرطان ينمو فوق ساقي
لا مفر..
لا مفر
لا مفر
23
أوف هذا الرقم “23” أين كنا وقتها يا حمادة؟
يا إلهى 2008، كم أشعر بالشفقة لكن لا مفر من المطحنة على الجميع، الهرمونات تحترق هنا، ولعها..
وكما قال المرحوم “يا لعبك.. يا لعبك”
24- ملذات الدراما على طريقة تارنتينو
لنحكى عن الحاج جمال إبراهيم.
أولاد الأصول منكم، وأنا عشمى فمن سيتحملون معى إلى هذا المستوى سيمتلكون خلفية معرفية ومستوى محدد من الذائقة القرائية، أن يتذكروا هذا الشهاب الذي لمع كعاشق خط سطراً ومحى، والمعروف باسم على صالحين..
لقد تشرفت في سلسلة من الصدف النادرة أن حضرت للراحل على صالحين في فرح شعبي في محافظة المنيا، ووسط أنهار البيرة والبانجو وقبلها الملوخية بالشطة وجولة صباحية في بن حسن كنت أرفرف من بضانى لما فوق السحاب، ثم تجلى على صالحين.
أوه هل كان 24 أم 23.. أم ربما قبل هذا ببعيد، كما تلك التجعيدات والجبال والوديان الصغيرة فوق ظهر السلمندر البري.
في لحظة ما التقت عيونى مع عيون “على” وحينها نطق جملته مشيراً بأصبعه على: “حد ينسي نفسه..” ربما لم تتجاوز في زمن نبضات الساعة ثلاث ثوانى، لكن رأيت أوهام وصوراً كاملة عن كل ما سيكون، وحينما آتانى خبر رحيل على صالحين كما رأيت، تحققت من كل ما سيكون..
كنت مع “سلومة” في النادى اليوناني الحقير بعماد الدين، وقلت هذه أوهام، ثم في رسالة نصية قصيرة انهار العالم، عرفت أنه لا يمكن جمع الشتات الآن.. لكن ما هو أجمل من مشاهدة النهايات
أو كما قال على: “هوب.. هوب/ صب.. صب صب”
هو الشغل كدا يا رحال، أهم من الفن الاتقان في الفن.. والحاج جمال إبراهيم
25
مفيش حاجة اسمها حب..
………………. لو عايزه حاجة.. هات لها جوب
جرافيتى في مدينة 15 مايو
26
ويقول بشار بن برد عن الإنتظار:
قد زرتنا مرة في الدهر واحدة ثنّي/ ولا تجعليها بيضة الديك
27
وعلى فترات متباعدة لكن محسوبة ذات إيقاع زمنى شه سنوي، تزورنى الكوابيس. كنت أقوم مفزوعاً وأحياناً بعيون تغرقها الدموع. وكانت بجوارى لا تستوعب ما جرى وتظل مكانها رابضة. وحينما تداهمنى حالات التعب واضطرابات المزاج غير المبررة أو المفهومة، كانت تتقوقع داخل ذاتها.
تقول: “أنت عايش جوا دماغك”.
ولا أجد إجابة، أو مخرج.
لكن شكراً. كان الهجران والآلم ممراً لاكتشاف ما هو أعمق، ربما الآن يمكنني إن امتلكت الإرادة أن انقذ نفسي من مصيرها التعس الذى ينتظرنى في المستقبل، وربما كما جدى يمكننى أن استمر إلى ما لا نهاية في تناول الدواء الذي كان يتناوله من أكثر من ثلاثين عاماً. الآن فقط صرت أمتلك إجابة لما لست سعيداً، ولدى اختيار بين مسارين، ومصيرين…
في النهاية أرواحناً، ليست انعكاس إلا لكيمياء جسدنا، لكن لعلكم تعلمون.
28
في عمره القصير المليء بالإحباطات، وبعد فشله في معظم العلاقات التي حاول بناءها، ورغم قناعته بأنه لا مجال لتحمله، وليس في قلبه حب ولا طاقة يمكنه منحها أكتر مما منحه لحبيبته في خطاباته الشهيرة. قرر كافكا الاستسلام لمغامرة غير محسوبة العواقب في عامه الأخير والانتقال إلى برلين لكى يعيش مع صديقته الجديدة “دورا”.
الأسطورة تقول أنه كان يتمشى في حديقة القمر “ماوير بارك” في برلين حينما لمح فتاة صغيرة تبكى لأنها فقدت دميتها. تقدم كافكا من الفتاة، وبسبب كذبة بسيطة حاول بها التخفيف من ألم الفتاة، قال:
-لكن دميتك لم تضع، لقد ركبت القطار وذهبت في رحلة.
“وكيف عرفت؟” سألت الفتاة.
“لقد أرسلت إلى خطاب” أجاب كافكا
“وأين هذا الخطاب؟” سألت الفتاة.
“في المنزل، لكن لو انتظرتينى إلى الغد سوف آتى لك به”. أجاب كافكا.
وبوجل كمن يكتب عمله الآخير جلس كافكا ليكتب خطاب مرسل من الدمية إلى الفتاة، في الخطاب تخبر الدمية الفتاة بأنها قد تعبت وملت من المدينة لذا قررت آخذ القطار والذهاب إلى مكان آخر. لكن الفتاة لم تكتفي بخطاب واحد فقط، لمدة أسبوعين ظل كافكا يكتب الخطابات على لسان الدمية موجهة للفتاة، والدمية تخبر الفتاة بحياتها الجديدة وكيف تعلمت أشياء جديدة، وصنعت “تاتو” على ظهرها، والتقت بدمية آخرى، وتمت خطبتها، وفي خطاب الدمية الآخير قالت الدمية أنها لن تسطيع مراسلة الفتاة بعد ذلك حيث أنها ستتزوج بالدمية الآخرى، وسيكون لديها أطفال آخرين مثل الفتاة يحتاجون رعايتها.
يبدأ فيلم “الفتاة ذات البوت الأصفر” للمخرج الهندى “Anurag Kashyap ” بحيلة درامية تذكرنا أو تذكرنى بشكل شخصي بواحدة من روياتى المفضلة لنجيب محفوظ وهى “الطريق”.
هذا المرة الفتاة الإنجليزية تذهب إلى بومباي لتبحث عن والدها الذي لا تعرف عنه أى شي. ومثل رشدى أباظة في فيلم “الطريق” فحتى اسم ذلك الأب ليس واثقة فيه أو وجوده بل يتداخل مع أسماء أخري في المدينة الكبيرة بومباى.
تحمل رواية نجيب تأويلات عديدة. واحدة منها أن الأب لغويا في بلاد المغرب يستخدمون كلمة “رب” مرادفاً لكلمة الأب. وبحث رشدى أباظة عن والده هو رحلة طويلة للبحث عن الإجابة النهائية والكاملة. الأصل والفرع. المرجعية التى تحمل جميع الأسئلة وإجابتها. نماذج الأمتحانات التى لن يخرج الإمتحان عنها. والأهم في رواية الطريق ليس الوصول إلى الأب أو الرب، بل الرحلة ذاته وما تكشفه ويتكشفه المرتحل فيها.
في فيلم فتاة البوت الأصفر، تقوم الممثلة التى فشختنى بشكل شخصي في دماغى “Kalki Koechlin” بالعمل في بيت للمساج والتدليك، معظم رواد المكان القابع في قلب عشوائيات بومباى من الرجال العجائز أو اللذين تتكلس عضلاتهم نتيجة ركود الحياة.
شارلي شبلن في خطبة الديكتاتور يقول فيما معناه “لقد طورنا السرعة لكن لا نزال في مكاننا”. وفي فيلم البوت الأصفر، يشتكى أحد الزبائن العجائز من الإزعاج والحفر والهدم في كل شوارع بومباى. يقدم لنا نظريته بشكل عرضي “أعتقد أن الحكومة تسمح بكل هذه الأعمال المزعجة لكى توهمنا بأننا نتطور ونحرز تقدماً”.
بقناعة واثقة في مثاليتها العليا ينهى نجيب محفوظ رواية الطريق واثقاً أن بطله لن يجد ما يبحث عنه لكنه الحركة بركة، ولا بد أنه اكتشف شيئاً وأشياء أخري. تكتشف الفتاة ذات الحذاء الأصفر الكثير من الحقائق. منها أن الزبون ذو الشعر المصبوغ بالأصفر الذي إلي جانب المساج تقدم له خدمات “ووظائف اليد” ليس إلا ربها الذي يعترف باكيا أنه يحبها. ومع ذلك لأن الإنسان دائماً كان جهولاً، عاصياً، خارجاً، ترفض الفتاة هذا الحب.
يغيب رب رشدى أباظة في رواية محفوظ ولا يتجلى ولا يظهر ويترك ابنه لنار التجربة. أما رب فتاة البوت الأصفر فيسير في شوارع بومباي باكيا محزونا مكلوماً.
بعد عشر سنوات أو أكثر. استيقظت مع الفجر. ارتديت البيجاما الكاستور المخططة. ومن المطبخ أخذت “الشفشق” ووضعت داخله الكيس البلاستيكى. وبهمة ونشاط اتجهت مشياً على القدمين في شارع القصر العينى نحو عربة الفول المتوقفة أمام مجلس الشعب المصدر الأساسي والأول للتشريع.
في الطريق سيكون هناك بعد عشر سنوات، ضباط وعساكر وأفراد من وزارة الداخلية في زيهم الجديد ذو اللون الأزرق. في الطريق سيكون هناك بعد عشر سنوات تجمع لآلاف الشباب معتصمين في ميدان التحرير. الشوارع وأبواب المحلات ستحمل لوحات جرافيتى من نوعية “إسلامية دى تبقي أمك” وسوف اسير رافعاً رأسي وأصابعى تطل من “الشبشب”. أوجه التحيات لأفراد الأمن المنتشرين على طول الشارع.
وقبل أن اقترب من بائع الفول ببضعة أمتار سيبدأ الضرب، وقنابل الغاز المحببة للقلب ستملأ الجو، سأقلب بوزى وأعيد مرة ثانية إلى المنزل. وحينما ألاحظ أن السعار قد أصاب أفراد الأمن وهم يلقون القبض على كل من يسير في الشارع سوف أختبئ في مدخل أحد البنايات.
في جيبي سأجد طباشير ملون، ثم يدخل أحدهم إلى مدخل البنايه مهرولا لأكتشف أنه “سيزر” سيكون لديه ذقن طويلة ذات لون أحمر مضفرة على هيئة ضفائر صغيرة.
كأنه ما من معركة تحدث في الخارج سأسأله “أيه النظام”
وسيرد هو في روتينيه: عالم ولاد متناكة، حاولوا يخشوا علينا دلوقتى بس طلعنا ميتين أبوهم.. أنت رايح فين كدا؟ ما تيجى تقعد معانا.
وحينما يهدأ الضرب، والبوم والطاخ ويا ولاد الكلب يا معرصين وسلمية سلمية روحوا اقبضوا ع الحرامية. سأخرج أنا و”سيزر” وسنتجه نحو مستشفي القصر العينى لندخل أحد المحلات المقابل له. يرفع “سيزر” باب المحل، فتنكشف “قعدة” عربي ملوكى، أميز بعض الوجوه التى أعرفه لكن أفاجئ أن جمعيهم يعرفونى، هناك من يوسع لى مطرح بجواره، ومن يمد يده بصباع كفتة، ومن يناولنى “جوينت”. أشعر بالخجل حينما انتبه أنى لا أزال ممسكا “بشفشق” الفول.
أجلس بينهم رافضاً التدخين أو الشرب واكتفي بأصبع كوفتة اقضمه على مهل، الجميع يرحب بي بحرارة. وشباب أصغر منى ومن سيزر يرفعون يدهم بالتحية “منورنا يا حاج أحمد”.