الملك سليمان

ما أن طلبتُ الاسبريسو بالحليب والكريمة البيضاء، حتى اقترحت أن ننهي مشروباتنا ونذهب للمنزل، لكنها بزهق قالت: «أحمد، نحن لا نفعل أي شيء مؤخرًا  إلا السكس.. هل هذا ما تريده لعلاقتنا؟ اليوم أريد أن أتكلم، لماذا لا تصنع شيئًا؟ متى يتغيّر وضعنا هذا».

تنهدتُ وأرجعتُ ظهري لمسند الأريكة البرتقالية، مددتُ يدي لعلبة السجائر، وهيّأتُ نفسي للعتاب، لليأس، للزهق، والزعيق، فأي كلام خارج الفراش لا يأتي من ورائه إلا كل ما سبق. كنا جالسين في مدخل باب الكافيه وقبل أن أخرج سيجارتي، دخل رجل يرتدي جلباب أبيض وعقال، يمشي مُتكئًا على عصا أنيقة. حركته بطيئة، عيون زائغة، وملامح مألوفة في غلظتها. اقترب نحو طاولتنا ونطق كلمات مضطربة بلهجة قحطانية، لم أفهم ما يقول، لكن خمنت فورًا مَنْ يكون.

انتصبتُ وقلت لها: «حان وقت التغيير، يا حُبي». مددتُ يدي ليتّكئ عليها الملك سليمان، وهمستُ في أذنه الكبيرة التي يخرج منها الشعر: «سيدنا رايح على فين؟».

لم يجب على سؤالي، لكن همس بمزيج من كلمات الشكر والبركات.

قالت: «إلى أين أنت ذاهب؟». قلتُ لها: «إنما النصر صبر ساعة، خلينا نشوف أي مصلحة من الملك سلمان».

دعوته للجلوس، لكنه اعتذر وقال إنه يبحث عن قهوة السواقين، مازحته وقلت: «بل هذا كافيه الشباب المحرومين»، ضحكتُ لكنه لم يضحك ولم يدرك الإفيه. خفتُ أن ينتبه الجالسون والعاملون في الكافيه لنا فتطير المصلحة، أخذتُه للخارج صانعًا من البحر طحينة، متمايلًا أمامه شبيك لبيك.. لك ما تريد.

بلا ريب كان هذا هو الملك سليمان، توسم في الخير قال، وأنه غافل الحراس وخرج من مقر الإقامة الملكي، لأن معظم الحرس ما هم إلا جواسيس يعملون لصالح ابنه ولي العهد، فكل ما يريده أن يذهب بشكل سري دون أن يدري أحد من خاصته.

-لكن إلي أين تريد أن تذهب يا مولانا؟

أخرج من جيب جلبابه رزمة ريالات، كبش منها وكرمشها في يدي، تلفتَ حوله وهمس في أذني: «كفر الشيخ، أبغي سيارة توديني كفر الشيخ الحبيبة».

«حبًا وكرامة» قلتُ له، ومشينا من ميدان التحرير حتى طلعت حرب.

كنتُ قد تركتُ سيارتي في أحد الجراجات هناك منذ يومين، وأعطيتُ المفتاح للسايس حتى يغيّر الزيت والفلتر. وقفنا على باب الجراج، شاهدتُ السيارة الفيات الخضراء القديمة، لكن لم ألمح حمادة السايس، سألتُ عنه فقالوا: «إجازة، اطلع السطوح يمكن يكون نايم».

قلتُ للملك سليمان: «انتظرني هنا»، وصعدتُ سلالم عمارة الشرق للتأمين، كان الأسانسير مُعطلًا، توقفتُ في الدور الثالث وأنا أنهج، ثم في الدور الخامس كان العرق يخرج من كل مسام جسدي، كنّا في شهر مايو ودائمًا ما تفائلتُ بالصيف. وصلتُ السطح فوجدتُ طفلة في السابعة تحمل رضيعًا عاري الطيز على كتفها. سألتها: «يا شاطرة فين غرفة حمادة السايس؟».

أشارت للسطح الممتلئ بالحيوانات وغرف الغسيل التى تحولت إلى غرف إيجار مكدسة بالعائلات والشقيانين، قالت: «المتلفت لا يصل، في آخر الردهة أمام بابه سبعة أحجار».

اتبعتُ نصيحتها لكني لم أصل. تلفتُ حولي وسألتُ آخرين صادفتهم فدلوني على الغرفة، لكن حمادة لم يكن فيها. دفعتُ الباب، دخلتُ، فوجدتُ كنبة هي في ذات الوقت سرير، وطبلية عليها صنية فيها ثلاث قلل. عطشانًا رفعت أول واحدة، لكن كانت خالية، ثاني واحدة هززتُها قبل رفعها لشفتي كانت خالية، ثالث واحدة وأصغرهم أمسكتها خالية كذلك.

نزلتُ مسرعًا وقد خفتُ أن يقودني البحث عن حمادة إلى ما يعطلني، خصوصًا مع كل هذه العلامات المتعاقبة للقلل الخالية. بينما أهبط سلالم العمارة، أخرجتُ ريالًا من كبشة الريالات التي كرمشها لي الملك، على الريال صورته كما الهيئة التي تركته عليها في الأسفل على باب الجراج، وإن كانت الهالات السوداء أسفل عينيه أكثر سودًا وامتلاءً بالضَغن والغِلّ.

عدتُ للجراج، فوجدتُ الملك سليمان واقفًا في الظل، متكئًا على عصاه، وقد أرتدى نظارته السوداء ذات الإطار الذهبي. فتحتُ موبايلي وقلتُ أمري لله، طلبت «أوبر» ووضعت الوجهة «كفر الشيخ».

ما أن لمحني الملك سليمان قادمًا حتى صاح معاتبًا: «يا أخي حرام عليك، لابد أكون في كفر الشيخ قبل صلاة المغرب، وإلا ينتبهون عليا ولغيابي، ويضيع كل الترتيب».

رفعتُ السبابة للسماء وقلت: «واللي خلق الخلق وفطر السماء وشق الفول نصين، قبل المغرب نكون راجعين وتكون مخلص مشوارك ولا الجنُّ الأخضر يعرف طريقنا، ثوانٍ والسواق الخصوصي بتاعي يكون هنا بالسيارة».

سألتُه إلي أين سنذهب في كفر الشيخ، قال إنه تزوج من فترة ببنت صغيرة، سحرته من أول لمسة. وصفها لى برقة: «والله النسيم يعدى من بين شعرها، أسمعه يقول آهات».

شغفه بالصبية أفقده اتزانه. قلبه لم يتحمل الهوى ونعيمه في سن المائة وعشرين، تعرّض لوعكة صحية وسافر للعلاج في الخارج حيث أحضروا له قلب شاب طازج، رموا قلبه القديم ووضعوا له قلب شاب صالح للعمل لثمانين عامًا على الأقل. عاد لمملكته فوجد الصبية لم تعد موجودة في القصر. نسى الأمر، وانشغل بمشاكل الحكم، لكنه الآن وقد أحس بدنو الأجل منه للمرة الخامسة فكر أنه في حياته لم يظلم سوى هذه الصبية، فلقد أحبها بصدق ومنحته حبها بكل إخلاص، لكنه رضخ لضغوط ولي العهد ومؤامرات الملكة الأم. والآن يأمَل في طلب الصفح، ومَنْ يدري لعل بئر الحب لا يزال فيه رشفة أخيرة.

ركبنا السيارة، وما أن تحركت وشغل السائق التكييف حتى نام جلالة الملك على نفسه، راقبته متأمّلًا وقد لعبت بي الظنون. تطبيق «أوبر» قال إن المشوار سيكلفني حوالى ألف وثمانمائة جنيه، طلبتُ من السائق أن يتوقف أمام ماكينة صرف آلي في طريقنا، سحبتُ الفلوس ولم يعد في رصيدي إلا خمسمائة جنيه. في طريق عودتي للسيارة أخرجتُ كبشة الريالات وأخذتُ أعدها لأجدها سبعة عشر ريالًا.

«أحييه» خاطبتني نفسي وهي أصلًا من الإسكندرية، «ملك وحينما يعطي يعطي سبعتاشر ريال؟». قلتُ لها: «ما هو ملك برضه هيعرف منين الريال بكام ولا يجيب إيه».

عدتُ للسيارة وكان لا يزال نائمًا، فردت الريال في يدي تأمّلتُ صورته على الريال يبدو فيها أصغر قليلًا وبلا ذقن.

جسد الحقيقة بجواري على الأريكة نائمًا على روحه. تهتز السيارة على المطبات، فيسيل من فمه خيط من اللعاب يلوث ذقنه، استعرتُ منديل كلينيكس من السائق، ومسحتُ اللعاب المُنساب، لكن الذقن خرجت في يدى، اندهشت ولم أعرف كيف اتصرف.

هل أعيد الذقن المستعارة لمكانها؟

هل أتركها؟

هل هذا هو الملك؟

هل الأمر مصلحة أم اشتغالة؟

إلي أين سنذهب في كفر الشيخ؟

هل سيكافئني على خدماتي؟

هل يكون لصًا ويقودنا إلى عصابة تستولي على ما نملك أنا وسائق الأوبر، وتغتصبنا؟

شخرت نفسي السكندريّة من هواجسي هازئة، الفأس وقعت في الرأس. لا داعٍ للقلق والأسئلة، فالمياه ستكذب الغَطّاس، ساعات وسنعلم أي منقلب منقلبين.

DsaKLCkXoAA1FNk.jpg

%d bloggers like this: