عزيزى بوعزت، لنعبر مسيرة اللذات

نشرت هذه التدوينة لأول مرة في نوفمبر2011، ضمن مجموعة الرسائل المفتوحة والتى نشرت على مدونة وسع خيالك القديمة

عزيزى بوعزت،

ذات مرة عاقبنى أحد المدرسين في المرحلة الثانوية بعدم كتابة اسمى في جدول الحضور رغم أنى كنت حاضر. قالها وفعلها ببساطة من يبصق تحت حذائه وبسبب  “أحمد ناجى.. غياب”. تحضرنى هذه الذكري بقوة مؤخراً. أنظر للخلف فأري نفسي تتبعنى. وأنظر للساعة فأراها معطوبة.

 قضيت ثلاث سنوات في مدرسة طه حسين الثانوية بنين. كان بعض الطلبة يكتبونها “مدرسة الدكتور طه حسين الثانوية بنين” وآخرون يكتبونها “مدرسة د.طه حسين الثانوية بنين”. أذكر في أحد الامتحانات وصلت الفذلكة بأحد الطلبة إلي كتابتها “مدرسة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين”. وبخلاف حلقات متناثرة من مسلسل أحمد ذكى لم يكن أحد منهم يعرف أى شيء عن طه حسين. وأقسمت في هذه الفترة المبكرة أننى أبداً لن أحمل أى حروف قبل اسمى ولن اسمح لأن يلهو مثل هؤلاء المراهقين الحمقي به.

فضلت الغياب على أن أكون عرضه للسهو والخطأ أو المديح الجاهل.

ومثل كل المدارس والمؤسسات التعليمية التى عبرت عليها كنت أكره هذه المدرسة. وكان ملجأي فيها المكتبة الموجودة في نهاية الطابق الثالث. لأن المدرسة قديمة فالمكتبة كانت قديمة، تمتلئ بمئات من الكتب من الستينات والسبعينات.

من الفصول تأتينى همهمات الطلبة وسبابهم. وفي مدرسة طه حسين الثانوية بنين كان لدينا فناء واسع أجرد بمساحة ملعبي كرة. لكن الكرة كانت في الأغلب في غرفة الأدوات الرياضية مُغلق عليها بمفتاح معلق في رقبة أستاذ التربية الرياضية البدين والبضين. وحتي إذا كانت في الخارج فلم أكن أحب لعب الكرة. بجوار غرفة الأدوات الرياضية كان هناك مسجد ضيق تفوح منه رائحة عطنة نتيجة لتعفن الموكيت من أثر المياه المتساقطة من أصابع الأقدام. بجوار المسجد كانت الحمامات. ووراء هذه الكتلة العمرانية القبيحة كان مقر تدخين السجائر وأحيانا لف سجائر البانجو.

من نافذة غرفة المكتبة حيث كان يعبر الزمن علي في بطء كنت أشاهد الشارع الرئيسي والطلبة يقفزون من على السور نحو الفضاء الرحب. في الطرف الآخر كانت تقع المقابر والتى كان ينبع منها في هذا الزمن هدوء وسحر أخاذ كعطر لا يمكن التحرر من أسره.

هكذا عبرت مراهقتي بين الكتب والرومانسية الايروتيكيا للمقابر والعطن المنبعث من موكيت غرفة المسجد.

عزيزى بوعزت،

يقول “ديفيد بوي” في أغنيته الوجودية  I’m deranged “مضحكٌ هو، كيف تسَافر الأسرار”. وفي ذات الأغنية/ القصيدة يقول “لفى/ كروزى.. بي يا مزة/ بيبي”.

مضحك هو، كيف تسافر الأسرار يا بوعزت.

منذ دقائق صعد القطار حيث أكتب إليك رسالتى تلك مجموعة من العجائز الألمان، رائحة الخمسينات تفوح منهم، لكن رحيق الصحة  والنشاط يحضر في أصواتهم، جلسوا على الطاولة المقابلة لى، وأخرجوا حقيبة مليئة بعلب البيرة، زجاجة ويسكى، وزجاجتى كوكاكولا. اثنان منهما أخذا يشرب البيرة، والآخرين يشربون الويسكى مخلوطاً بالكولا.

ما الذي يفعله حفنة من الرجال في الخمسينات لم يعد لديهم على الأرجح أسرار ليدعوها تسافر؟!

يأخذون رحلة قطار تدوم لست ساعات ويسافرون هم بدل الأسرار على مذاق الويسكى بالكولا.

عزيزى بوعزت،

أبداً مطلقاً… لا تثق في المصطلحات

2012-05-31 15.25.01
تصوير: أحمد – مايو 2012

عزيزى بوعزت،

لا أزال أكتب إليك من القطار. من النافذة أخضر في أخضر فأخضر، خضار وأشجار ممتدة إلي ما لا نهاية، لا يكسر رتابة المشهد إلى مجموعات من الأبقار تسرح هنا أو هناك. ثم ندخل فجأة نفق طويل. من النافذة الآن لا شيء إلا السواد.. ظلمات فوقها ظلمات.

ومن نافذة المكتبة كان ترتمى جثة الشمس على مجموعة من المقاعد. وفي ليالي الشتاء كنت أحب بداية جولة القراءة في تلك البقعة أجلس حتى يمتص جسدى دفء الشمس. ثم أنتقل إلي مكان آخر إذا بدأت الحرارة تزعجنى.

أدين إلى ما أنا عليه الآن لمكتبة طه حسين الثانوية. هناك قرأت مئات الكتب التى أعرف أنه كان من المستحيل قراءتها في أى فترة آخري. كان لدى حلم رمانسي في تلك الفترة أن أقضي أيام الإجازة في المكتبة ألتهم الكتب كفيل في حفلة شاى. والأجمل أنى كنت أقرأ على غير هدى أو بينة.

أتذكر على سبيل المثال أني قرأت جوته وأنا أظنه كاتب فرنسي، وكنت أعتقد أن ديستوفيسكى عاش في زمن الثورة الحمراء، لهذا كان حزينا على الماضي ويحتقر الإنسانية وحماسها. من ذكريات القراءة على غير الهدي أنى قرأت مسرحية بعنوان “بيت الدمية” لكاتب يحمل اسم “هنريك أبسن”. ظلت المسرحية وعنوانها عالقاً في ذهنى بينما غاب لسنوات اسم الكاتب. حتى ذات يوم كنت أعبر أمام مسرح البالون ووجدت إعلاناً لمسرحية كانت تقوم ببطولتها بوسي “بيت الدمية” للكاتب العالمى “هنريك ابسن”. في هذه الفترة كانت بوسي قد حصلت على الطلاق من نور الشريف بعد افتضاح أمر مغامرته القصيرة مع ممثلة مغمورة. وكان هذا زمن بعيد..

على مدار ثلاث سنوات، كنت أقرأ القصص القصيرة لمصطفي محمود، الأعمال الكاملة لنجيب محفوظ، شكسبير، تشيخوف، ديستوفيسكى، موليير، نيتشه، سيجموند فرويد، يحيي حقي، بوشكين، برنارد شو، صلاح عبد الصبور، موباسان، فولتير، لوركا، المعري… إلخ.. إلخ في المقابل فلم أستطيع قراءة أى شيء ليوسف السباعي، أو إحسان عبد القدوس، أو عبد الحليم محمود أو عبد الرحمن الشرقاوى.

وطوال رحلة الثلاث سنوات كنت مهبولاً بكتاب موسوعى آخر لأنيس منصور “أعجب الرحلات في التاريخ” لم أستطيع إنهاء قراءة أى كتاب آخر لأنيس منصور. لكن هذا الكتاب بالذات سحرنى لسنوات طويلة، كان نافذة للأحلام البعيدة. قبل مغادرتى القاهرة أخذت أبحث عن الكتاب في أكتر من مكتبة ولكن لم أجده.

“أعجب الرحلات في التاريخ” كتاب نادر أتمنى أن أضيفه لمكتبتى الضيقة، الصغيرة.

منذ المرحلة الجامعية لم يكن لدى مكتبة، ولم أحب أبداً الاحتفاظ بالكتب. لكن منذ بضعة أشهر وتحت إلحاح سوسو ونزعة رومانسية تملكتنى. ذهبت إلى مجمع ضخم في شارع الهرم للأدوات المنزلية والخشبية والحدائقية واشتريت سبعة أرفف وضعتها في غرفة المكتب. وقررت أبداً إطلاقاً أن لا يزيد عدد الكتب التى أملكها عن هذه الأرفف. حينما تزيد لا أقوم بإهداء الكتب، أو التبرع بها لمكتبة الجامع. فهذه وإهانة للصديق الذي أهدى إليه الكتاب وإهانة للمكتبة العامة التى أتبرع بها للكتاب. وصلت لحل أكثر إنسيابيه وإثارة. أفتح الباب في المساء أضع الكتب أمامه وفي الصباح أفتح الباب تكون الكتب قد اختفت.

عزيزى بوعزت،

لا تهدى كتب لا تريدها، ولا تأخذ إلا الكتب التى تريدها.

عزيزى بوعزت،

كان يشرف على المكتبة مدرسان. الأولى فتاة ذات روح عانسة. تقريبا كانت لا تتكلم مع أحد تأتى وتظل جالسة على المكتب إلا لإعداد أكواب الشاي التى يطوف حولها الذباب ما أن ينضب منها السائل الأسود. الآخر كان أستاذ رضا الروش.

ملابسة دائماً ملونة، لكن على عينيه نظارات شمسية سوداء معتمة لا يخلعها حتي داخل المكتبة. حاول التقرب أو التعرف عليا نظراً لأنى كنت أكثر من يزور المكتبة، لكني قابلت محاولته ببرود. كنت ولا أزال لا أحبذ الروشيين، ولا أرتاح لمن يرتدون النظارات السوداء باستمرار. وعلى عكس جميع مدرسي المدرسة لم يكن “رضا” يهتم بقراءة الجرائد التي تصل كل يوم للمكتبة، ونادراً ما رأيته يقرأ كتاب ما. أحياناً كنت أراها فقط يتفحص بمتعة واستغراق مجلة “نص الدنيا”. وطوال حياتى على هذه الأرض فلم أعرف أو أري أى إنسان آخر غير رضا يقرأ مجلة “نص الدنيا”. من رضا تعلمت قواعد الفهرسة وأساسيات علم المكتبات.

في السنة الدراسية الأخيرة كان رضا يتصيد الأيام النادرة التي آتي فيها للمكتبة لتبديل الكتب ليفتح معى أى حوار، وكانت معظمها تتركز في شكل نصائح عاطفية رغم أني أبداً لم أطلبها منه. وأمامى صمتى ولا مبالتى بحكايته. كان يأخذ في استعراض حكايته الخاصة التي كانت دائماً تدور في فترة داسته الجماعية. حتي أنى تخيلت في هذه الفترة أن حياة الإنسان العاطفية تنتهى حينما يتخرج من الجامعة واكتشفت بعد ذلك أن العكس هو الصحيح. من ضمن حكاياته التى كانت تمتزج فيها المبالغات بالخرافات. حكي لى رضا كيف أنه ومجموعة من أصدقائه أسسوا جماعة في الجامعة مهمتها معاكسة الفتيات غير الجميلات كهدف إنسانى لتوزيعه عطفه وفحولته، وإشعار هؤلاء الفتيات بأنوثتهن. أتذكر أنى جلست صامتاً وهو يحكى برومانسية بالغة هذه القصة ثم قمت وهرولت نحو أقرب حمام وتقيأت كل ما في معدتى.

في هذه الفترة ولأسباب سيكولوجيا كنت أتقيأ باستمرار. الآن ولم أعد أتقيأ، ولم أعد أشعر بضغط تلك الأسباب السيكولوجيا، لكنى لا أعرف أخير هذا أم شر.

%d bloggers like this: