في رحاب أعلَم السحَرة العرب

يخبرك الفلكي (المنجم) الساحر، بكل شيء ترغب في معرفته، لكنه أبداً لا يخبرك كيف يعرف هو، أو كيف يقوم بصنعته. قد يقول لك أن لديه فتوحات أو أنه “مخاوي” عفريتاً من الجن، أو، كما صرح الفلكي الشهير محمد فرعون مؤخراً مع وائل الابراشي، بأنه متزوج من جنيّة، وبالتالي فهي من تساعده في تنفيذ أعماله السحرية أو معرفة الحاضر والمستقبل من خلال الفلك والأبراج.

dav

خلال السنوات الأخيرة، انتشر طراز خاص من النساء، تقريباً يقصدن الكوافير ذاته، معظمهن بشَعر أصفر، شفاه مكتنزة، وجه فخور بالعمليات الجراحية والخيوط الفرنسية التي تشده، ونظرة تحدق في الفراغ. يصاحب اسمها لقب “خبيرة الأبراج” أو “خبيرة الفلك”. والسؤال هنا كيف كونت هذه الخبرة؟ كيف حصّلتها وراكمتها حتى أصبحت خبيرة؟ السؤال الأكثر تعقيداً هو كيف يمكن تعلُّم السحر؟

الانترنت، وتحديداً “غوغل” وفيديوهات “يوتيوب”، تحتوي على شرح وتفصيل لعمل كل شيء. إذا أردت معرفة كيف تصنع سيارة مفخخة ستجد إجابتك. كيف تصنع قنبلة بدائية الصنع ستجد. كيف تطبخ الحشيش؟ كيف تزرع الماريجوانا؟ كيف تتعلم عزف الغيتار؟

كل الأفعال والمهارات، الشرعية وغير الشرعية، القانونية وغير القانونية، لها دليل استخدام في الانترنت، وعشرات الفيديوهات.. إلا السحر. من أين إذن يأتي كل هؤلاء السّحَرَة؟

الإجابة الكسولة التي يقدمها البعض هي أن تلك فتوحات أشبه بـ”الفتوحات المكية” لابن عربي أو “التجليات الصوفية”. وفي قبولك لهذه الإجابة ما يعني أن السحر موهبة. لكن حتى الموهبة تحتاج تنمية، والسحر مسألة مارسَتها الإنسانية عبر آلاف السنوات من تاريخها. فأين تراث الإنسانية من كتب السحر وتاريخه وتطوره؟

dav
غلاف كتاب السحر العظيم

من المؤسف أن المكتبات العامة تخلو من تصنيف لكتب السحر، كذلك الأمر في دار الوثائق ودار الكتب. وإذا دخلت أي مكتبة تجارية الآن، وسألته عن كتب السحر، فسيخرج لك مجموعة من الكتب، معظمها لمشايخ سعوديين أو سلفيين. هي كتب تَدعي أنها تُحَارب السحر غير الشرعي، وتقدم الرقية والوسائل الشرعية للتعامل مع عَالمِ السحر، لكن كتب السحر نفسه، صوت السحرة الملعونين طوال التاريخ، دائماً غائب.

لم يتعرض تصنيف كامل من الكتب للمحو والحرق والإبادة، مثلما حدث مع كتب السحر، والنتيجة أن واحدة من أقدم ممارسات الإنسانية، وكتبت وسجلت فيها عشرات الكتب والمراجع، كلها الآن أصبحت هباء. سراب ضائع في تحالف يجمع بين الرقابة السلفية، ورقابة الحداثة التنويرية، التي ترفض نشر كتب الدجل والشعوذة، لكنها تحتفي بكتب التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية، وألغاز النصوص الصوفية.

كتب مثل “الصارم البتار في مواجهة السحرة والأشرار“، أو غيره من أعمال وحيد بالى، وكتب واسعة الانتشار تباع في مكتبات السلفيين، إضافة إلى الكتب الدينية، تطرح نفسها كوسيلة للوقاية والحماية من الوقوع في حبائل الدجالين والمشعوذين، حيث يعتمد المؤلف على عدد من التفسيرات للقرآن والسنّة، ويستخدم الآيات والأدعية النبوية وتكرارها كوسيلة للقضاء على الأعمال الشريرة وإخراج الجن من أجساد النساء البائسات اللواتي سكبن ماءً ساخناً في الحمام من دون أن يتعوذن من الشيطان. لكن هذه الكتب لا تدلّنا كيف يمكن تسخير الجان، أو كيف يمكن قراءة الأفلاك.

يدافع الفلكيون، خبراء الأبراج، عن شرعية عملهم. لديهم تفسيرات خاصة من القرآن والسنّة. يستشهدون بالآيات التي أقسم فيها الله بمواقع النجوم، وأن في السماء بروجاً لتهتدوا بها. ولهذا، فما يمارسونه شرعي ورسمي من الكتاب والسنّة. لكن بينما يقدم لنا وحيد بالىخلاصة تجاربه وكيف يمكن استخدام القرآن والسنّة لعمل السحر المضاد والرقية الشرعية، فالفلكيون المدنيون لا يكشفون أبداً سر الصنعة. لأنه مهما بلغ علمهم ومعرفتهم، فلن تصل أبداً إلى معرفة وأعمال وكتب الأستاذ عبد الفتاح السيد الطوخي، مدير “معهد الفتوح الفلكي لمصر والأقطار الشرقية”.

للطوخي عشرات الكتب والعناوين في كل تصنيفات السحر وأنواعه، بداية من مؤلفه القصير “نهاية العمل في علم الرمل”، حتى تخصصه الذي كتب فيه مؤلفات واسعة وهو علم الحروف وقدرات كل حرف وسره، وجمعها في كتابه “البداية والنهاية في علوم الحرف والأوفاق والأرصاد والروحاني”. تنتشر عناوين مؤلفات الطوخي في الانترنت. وفي الشبكات الاجتماعية ينتحل اسمه وشخصيته الكثيرون. فاسم الطوخي هو عَلَم لكل المهتمين بالسحر والعلوم الميتافيزيقية في مصر والعالم العربي. لكن رغم ذلك، لا نعثر على أي معلومات موثقة عن سيرته الذاتية، سوى الشذرات التي تركها هو في مقدمة كتبه، حيث يعرف نفسه بصفته مدير عام “معهد الفتوح الفلكي لمصر والأقطار الشرقية”.

خلال سنوات طويلة، حاولت العثور على كتب عبد الفتاح الطوخي، وحينما كنت أسأل أصحاب المكتبات القديمة، بعضهم لا يعرفه، والآخرون يهزون رؤوسهم ويجيبون بازدراء “مش بنبيع الكتب دي”. أما في النت، فالنسخ المرفوعة من بعض كتبه لا يُعرف أبداً مدى صحتها. أضف إلى هذا أن كتب الطوخي تحتوي في العادة، رسوماً وطلاسم ومنادل مرسومة ومكتوبة بخط يده شخصياً، وهو ما لا يتوافر مع النسخ الموجودة في الانترنت إن وجدناها.

موقع “النيل والفرات” يبيع نسخاً نادرة من كتبه سعرها يبدأ من ألف جنيه مصري (50 دولار أميركي) وحتى أربعة آلاف جنيه (200 دولار). لكن بفضل الصديق والمترجم والباحث في الأدب والتراث العربي، بن كوربر، خرجت من السجن لأجد هدية منه هي الجزء الثالث من كتاب السحر العظيم مع ورقة في ضرورة استكمال بحثنا عن الجزأين المفقودين.

الكتاب صادر عن مكتبة القاهرة في شارع الصنادقية (ميدان الأزهر)، لا يحمل تاريخ الطبع، لكن الأرجح أنه طُبع في الستينات أو بعدها. مثل معظم مؤلفات الطوخي، الصفحة الأولى تحتوى على صورته وتحتها بيتان من الشعر الذي دائما ما يضعهما:

 “المرء ضيف في الحياة وإنني/ ضيف كذلك تنقضي الأعمار

فإذا أقمت فإن شخصي بينكم/ وإذا رحلت فصورتي تذكار”.

يحتوى الكتاب على عدد من التمائم والطلاسم والأعمال، التي يمكن استخدامها في أغراض مختلفة، فهناك فصل لجلب وتهييج المحبة، عمل سورة يس الشريفة وطلسمها لمعرفة السارق، للصلح بين الزوجين، لعلاج الرمد، لزيادة البهجة والألفة، ولخلاص المسجون. ولتوضيح طريقة عمل كتاب الطوخي، نستعرض مثلاً طلسم “خلاص المسجون”، وهو يقع في باب حرف الـ(ب) حيث يوضح الطوخي أن للحرف شكلَين للكتابة، واحد عربي والآخر هندي. ويكفي نقش الشكل الهندي لحرف الباء، خمس مرات يوم السبت، على صحيفة من الرصاص ثم وضعها في باب السجن، ليخلص كل من فيه بإذن الله. لكن بعض الأعمال والطقوس أكثر تعقيداً وتستلزم ما يسميه الطوخي الرياضة أو الخلوة. حيث على القائم بالعمل اعتزال الناس والاستغراق في الطقوس التي يصفها الطوخي بالتفصيل. فمثلاً، لأجل التغلب على أعدائك فعليك أولاً، كما يقول، “الصلاة والصوم تنال الخير وتستريح من اللوم لأن كل شيء أصله العمل ومجاهدة النفس عن الشهوات ومخالفتها، فكن فطيناً ولا تكن عجيباً”. فمن دون الرياضة لا يمكن للأعمال أن تعمل، أما العمل نفسه فتكتبه في قعر إناء مدهون بالأخضر، ثم تصب الماء وتقرأ عليه سورة “قل أوحى إلى” وآخر سورة الحشر، وتشرب الماء على الريق فلا يقوى عليك أحد من الأعوان.

dav
طلسم في هيئة ختم سلمانى

أعمال وطلاسم الطوخي السحرية ليست دائماً مُسخرة للخير. فهناك باب مُخصص للأختام السليمانية وكيفية استخدامها لتسخير الجان، هناك فصول في الأعمال التي يمكن استخدامها لإهلاك الظالم، ولمنع النوم، لقتل الفسقة، ولهلاك المتمردين وللاحتراق في المحبة.

الجدل بشأن علم الطوخى لا ينتهي، بالنسبة إلى المؤمنين بعالم السحر والماورائيات هو أستاذ وشيخ كبير، وبالنسبة إلى غير المؤمنين فالكتاب مثل بقية كتب الطوخي، تظل كتابة فريدة وسحرها الأدبي لا يقاوم، لغة تغرف من التراث العربي، لكنه تراث مطمور، ليس التراث الأدبي أو النصوص الدينية القديمة، بل النصوص المتهمة بالهرطقة والدجل والشعوذة.

الكتاب كله كأنه درس يلقيه الطوخي على طالب شاب في علم الفلك والسحر، وبين ثنايا الطلاسم والتعاويذ يعطيه نصائح مختلفة في الحياة، مَن يصادق ومن لا يصادق، وكيف يجاهد شهوات النفس. وفي أحيان أخرى، يتحدث الطوخي عن نفسه. فتحت عنوان “وأما بنعمة ربك فحدث”، يكتب الطوخي “إنني كتبر مستتر في ثرى أرض، وأهل تلك الأرض في فاقة شديدة وكثير ما يمرون على الأرض، وينظرون لمعان بعض ذرات التبر، ولكن لا يفكرون ولا يبحثون. فإذا جاء أجنبي (يضع هامش هنا قائلاً: أن الأجنبي هو الموت) وبحث في تلك الأرض وأخذ تبرها، وعلمت بذلك أهلها ولا بد أن يعلموا لأن الأجنبي، سيزيع (هكذا كتبها في الأصل) ما عثر عليه من ثراء ونفع (يضع هامش هنا قائلاً: لأن العبقري لا يظهر إلا بعد الموت، كالمخترعين والفنانين والفلاسفة) فهنالك تندم المواطنون وهيهات أن ينفع الندم”.

هيهات أن ينفع الندم حقاً يا عم طوخي. ربما في وسط العتمة والصفعات المتتالية التي يتلقاها مشروع التنوير والحداثة العربي، يكون هذا اليأس فرصة لكي ننقب في هذا التراث أو بألفاظ الطوخي الفلكي “التبر”.. علنا نعثر على الذهب، أو وسيلة لإهلاك الطاغية.

dav
طلاسم هندسية مختلفة

 

%d bloggers like this: