نشرت في المدن عام 2013
يقع مقر عملي الذي أمارسه طوال العام الماضي في شارع مصدق بحي الدقي في القاهرة، على جانبي الشارع تمتد مبانى عشرات الشركات الكبرى بداية من مجموعة طلعت مصطفي وحتى أحد مكاتب مجموعة “هيرمس” إلى جانب البنوك والكافيهات المتنوعة. هذه ليست منطقة برجوازية لكنها منطقة مَال وأعمال، ورواد الشارع في الغالب من “الناس الشيك”.
لكن نظراً لظروف عملي التي تفرض العمل حتى وقت متأخر حتى بعد منتصف الليل أحياناً، فقد لاحظت كيف وبانتظام يومي بعد الساعة الثامنة مساءاً تظهر فتاتان أو أكثر وتقفان في زَاوية ثابتة من الشارع. أحياناً تظهر واحدة وأحياناً يظهرهن في مجموعة من ثلاثة أو أربعة. تمتد الوقفة في أيام إلى السَاعةِ الواحدة بعد منتصف الليل.
بدا واضحاً طبيعة المهنة التي يقومن بها، والغرض من وقوفهن في هذه الزاوية، لكنى اندهشت من تواجدهن المستمر ليلاً، ومعظم الوقت بدون أي حماية يوفرها ذكور كما تقتضي تقاليد هذه المهنة العريقة. وحتى العاملات في هذه المهنة في مصر لا يقفن في الشارع بمثل هذه الطريقة، لكن شارع مصدق كشف لي أن هذا المجتمع من الصعب معظم الوقت التنبؤ بردود أفعاله.
من نافذة مكتبي تابعت كيف ينصرف الجمهور عن فتيات مصدق، أحياناً كان يصل الأمر إلى أن الفتاة هي التي تطارد شاب يسير في الشارع وتتحرش بهم، أو توقف أحدهم لطلب سيجارة فيهرول هارباً. الطريقة التي يقف بها فتيات شارع مصدق كانت تجعل زبائنهن المفترضين يشعرون بالتوتر، فالواحدة منهن لا تنظر للأسفل بل عيونها تراقب كل حركة الشارع، وإذا مررت بجوارها فلن تصرف وجهها أو تتصنع البرود بل تنظر في عينك بنظرة مُتحدية.
لكن على الضفة المقابلة من الشارع يقع أحد مراكز خدمة العملاء التابعة لشركة اتصالات “وكافية” فخم بالتالى تعج الحركة بفتيات الطبقة الوسطى محجبات وغير محجبات يسيرن كما تفرض عليهن مدينة القاهرة، الأكتاف مضمومة، الظهر من أعلى متقوس، الرأس لأسفل والعين في الأرض تنظر فقط لموضع قدميها. وبينما تعبر الطريق أو تدخل أو تخرج من أحمد المحلات، ينطلق سيل التحرشات المختلفة من العابرين في الشارع، شاب يلقي بكلمة بذيئة بصوت عالي، آخر يبطء من سيارته ويخرج رأسه ويلقي بكلمة آخر، ثالث يعبر فوق درَاجة نارية فيمد يده ويمسك قطعة من جسد الفتاة.
تابعت على مدار عام هذا التناقض بين ضفتي شارع مصدق ليلاً، ففي جهة تقف فتيات يحترفن الدعارة ولا يجدن زبائن، وفي الجهة الآخري فتيات لا يفعلن شيئاً سوى مُحَاولة عبور الشارع فتتحول إلى مُغَامرةِ خطرة لتجاوز المعاكسات والتحرشات.
بل شاهدت ذات يوم راكب دراجة نارية اقترب من فتاة وكان على وشك الاصطدام بها ثم مال يساراً في آخر لحظة ليتفاداها، وأطلق جملة معاكسة سخيفة. نفس الراكب استدار عند نهاية الشارع إلى الضفة الآخري وحينما أوشك على العبور بجوار “فتيات مصدق” الواقفات في ملل أبطء من سرعته وهو يتأملهن متوجساً، وما إن اقتربت واحده منهن وهى مبتسمة حتى ضغط على البنزين وانطلق بأقصي سرعة مبتعداً.
ليس لدى استنتاجات كبيرة أو عميقة تفسر لماذا يهرب الذكور المتحرشين من فتيات شارع مصدق العاملات في مجال الخدمات الجنسية؟ ولماذا نفس الذكور يستعرضن بذائتهم وفحولتهم بالتحرش بفتيات يتلبسهن الخوف منذ خروجهن من بيوتهن وحتى عودتهن.
ليس في الأمر علاقة بالكبت الجنسي، وبالتأكيد هو بعيد تماماً عن غياب التربية وضعف الأخلاق والقيم الدينية إلى آخر هذه الخرافات التي يتم الترويج لها كسبب من أسباب التحرش. وليس لدى إجابات الصراحة، وإن كانت تجربة مصدق معمل اختبار يمكن أن نفهم منه شيء ما..