لغز المهرجان المشطور- قصة طويلة

1

عرفتُ الخبر من خلال “التايم لاين”. تقريبًا كل الحسابات الرسمية لمغنّيي المهرجانات وبعض العاملين في القطاع الفني تنعي الفقيد، النجم، الأخ، الصديق..إلخ إلخ.

مات “دادي”.

عمر قصير من الصداقة. فكرتُ وأنا استوعب الخبر، لكنني انتبهتُ أنني عرفتُ دادي منذ سبع سنوات، وليست هذه بالفترة القصيرة.

أحببتُ صوته وعشقتُ طاقته على المسرح وفي حفلات الشارع وأفراح الفنادق والأندية النقابية. مفجوعًا بالزمن حينما يداهمنا في صيغة أرقام  وأخبار قررتُ الذهاب إلي الجنازة، ربما لتوديع الزمن. لا أعلم هذه الأفكار الوجودية وظلالها العاطفية تصيبني بالتوهم وفقدان القدرة على التركيز.

أروي كل هذا لأقول كيف عرفتُ بشأن الجثة المشطورة والكبد المفقود، ظنًا منى أن هذه هي العناصر المثيرة، التي بذكرها تزدهر حكاية حياتي، وأنجح في جعلها طاووس متباهيًا بالأعضاء البيولوجية المبتورة والضائعة.

الأفكار الذهنية حتى في صيغة الخيالات العابرة مُهمة، لأنها تجعلنا نفهم القليل عن الدوافع البشرية كقرار الذهاب إلي الجنازة، ثم الاتصال بأي من رفاقه في المنطقة لمعرفة موقع الجامع ودار المناسبات، التي ستستضيف الجنازة.

رد عليّ “خمسينة” في المرة الثانية، وأخبرني أنه كان محتجزًا للتحقيق وخرج الآن فقط من القسم، وسيحاول حضور صلاة الجنازة.

الدنيا مقلوبة والمباحث مطلوقة.

 

16707287_1839752759645906_5683561314198454254_o

 

 

2

كنتُ مُراسلاً فنيًا لمجلة عربية، أنجز لهم قصة أو قصتين في الشهر. وبعد مُحَاولات وإصرار على الطلب وافقت مديرة المكتب على إنجاز قصة عما اسميته وقتها موسيقى الشارع.

صارحتني بعد ذلك حينما قدمتُ لها الموضوع مع عدد من الصور المشوشة سيئة الإضاءة التقطتها بكاميرا هاتفي البسيطة، التي لم تتعد جودتها 2 ميجا: “لا.. لا يا أحمد، مش دا الشغل اللي توقعته، أنا مقدرش انشر الكلام والصور دي، دا في صور لهم وهما بيشربوا مخدرات”.

لم أكن مصورًا جيدًا. لذا لم أفكر يومًا في امتلاك آلة تصوير.

انتظرتْ مديرة التحرير موضوعًا عن الفرق الشبابية من طلبة الجامعة، التي تغني في المراكز الثقافية الأجنبية وتقدم نفسها بصفتها غناء الشارع، بينما كنتُ أقدم لها مجموعة صور مشوشة لمراهقين من مدينة السلام يرتدون ملابسًا بألوان صاخبة ويتخذون وضعية العصابات عند التصوير وخلفهم تظهر برك المجاري الطافحة على طول الشارع والظلال المشوهة للمساكن الشعبية، التي بنيت على عجل بعد زلزال التسعينات.

بالنسبة للمخدرات فقط، كانت صورتان لـ “دادي” وهو يمسك جوينت حشيش مفلطحًا من نهايته تشتعل جمرته شمسًا صغيرة في الصورة. كان في الخامسة عشر من عمره، نحيفًا ولم يبدأ في حلق شعره رأسه، كما سيذكره الجمهور في فترة مجده الذهبي قبل الرحيل المفاجئ.

قيلت تأويلات فنية بعضها قرأته في مقالات كتبها زملاء أن “دادي” حمل لقبه الفني بعدما بدأ في المواظبة على حلق شعر رأسه بالموس، حيث اكتسب مظهر الأكبر سنًا بين جيله، الذي شكل الموجة التأسيسية الأولى من موسيقى المهرجانات. لكن في أول لقاء لنا لإنجاز هذا الموضوع الذي لم ينشر أبدًا، وداخل محل “فيجو” ضيق المساحة، ظللت أخاطبه مستخدمًا اسمه الرسمي “محمد عبد السلام”، بينما كان الجالسون ينادون عليه بدادي، وكان يربي شعره خشنًا مجعدًا، يفرده بكريمات الفرد، ثم يصففه باستخدام الجيل اللامع الدهني. تصورت أن اللقب يحمله كاختصار لاسم “عبده”، لكن كصحفي يتصنع التواضع لم أغامر في تخميني وسألته في هذا اللقاء. “لماذا ينادون عليك بدادي”. أخذ يلحن مقطعًا سأسمعه يغنيه بأشكال مختلفة في حفلاته: “انتي مع دادي/ ولا في النادي”، قطع جملته الغنائية ليقول: “طبعًا لازم تكون مع دادي”.

في هذا اللقاء سمعتُ أطيافًا أيضًا عن مغامراتهم مع الفتيات، عَرَضًا أشار دادي لمرة ضاجع فيها مع فيجو ذات الفتاة. لم يبد متباهيًا بمغامراته. لكن الحديث كله كان عن الصحاب، الموسيقي، الحريم، والغلابة في المنطقة. خرجتُ من اللقاء وأنا في حسد ودهشة من الحياة العاطفية الخفيفة والمليئة بالخيارات التي يحيون فيها. لم أشر لحياتهم الجنسية والعاطفية المنفتحة في التقرير وإن أشرت عرضًا للحشيش بصفته موضوعًا يظهر في بعض الأغاني. لم يُنشر التقرير. ولم يسألني “دادي” عنه بعد ذلك وإن شعرت أحيانًا بقدر من الخبث في عينيه حينما كنا نجلس بعد ذلك في جلسات استديو فيجو، ثم حاحا بعد ذلك، ليغني مقطعه: “صحوبية جت بندامة/ خلوا لي في قلبي علامة / نسوني الابتسامة”.

بعد سنتين من لقائنا الأول سأكون السبب في ظهور “دادي” على التلفزيون للمرة الأولى. سيفرح كثيرًا بهذا اللقاء، كل أهالي المنطقة سيشاهدون البرنامج ويزغردون مع ظهور “دادي”. سيرتفع أيضًا سعره في الأفراح، وياه على الدنيا والنفوس.

3

لم يكن “خمسينة” يبالغ. هناك حكومة حتى في العزاء.

لم ألتق بـ”خمسينة” يوم الجنازة لأنه لم تكن هناك جنازة في اليوم الذي تواعدت فيه مع “خمسينة” على اللقاء، حيث جمع الطب الشرعي الجثة وفحصها وأصدر تقريره بعد ذلك بيومين، ثم سلم الجثة لأهله لدفنها. وأقيم العزاء في مساء اليوم الذي دفن فيه الأهالي الجثة المشطورة.

حضر المأمور، الذي كان صديقاً لدادي، لكن هذا لا يبرر انتشارهم الملحوظ بهذا الشكل. ظننت أن خمسينة يبالغ حينما تحدث عن جثة مشطورة وكبد مفقود. لكن إشارته للعنف، الذي تمت به الجريمة جعلني أظن أن “دادي”، الذي غنى للبلطجة والخناقات والعنف والأصول والسلاح وكيف تزفر سكينك وكيف تطهره، قد قضى نحبه في خناقة. لكن الأحاديث، التي سمعتها في العزاء كانت متطابقة في حقائقها الأساسية. عُثرَ على “دادي” ميتًا في شقته الصغيرة في الدور الأرضي. جسده مشطور لنصفين، وكبده مفقود. انهارت أمه حينما عرفت الخبر ولا تزال في غيبوبة إلى الآن.

تأكدتُ أكثر من تلك الحقائق في ذات اليوم حينما وجدتُ أحد المواقع الإسلامية الداعمة لمرسي وضد الانقلاب وقد نشرت الخبر تحت عنوان “نفوق مغني المهرجانات المؤيد للانقلاب”. كان الكثيرون قد تشاركوا الخبر على “التايم لاين” برفقة تعليقات تسب الإسلاميين وحقارتهم، وحمل الخبر تفاصيل عن عملية التمثيل، التي تعرضت لها جثة دادي. تضايقتُ أنا الآخر، لكن لم أكن لأتوقع ما هو أقل من ذلك منهم، في أكثر من أغنية خصص “دادي” فقرات كاملة للسخرية من الخرفان، والشيخ الفتان، والإخوان.

4

ظلت الفكرة تداعب ذهني لأيام وأنا أتابع تكشف المزيد من الأخبار عن الحادثة. ثم أخيرًا هاتفتُ “خمسينة” وطلبتُ لقاءه، قال إنه مرهق من التحقيقات ويستدعونه كل فترة. ليس لديه وقت. ولم أضغط عليه في موضوع المقابلة. اهتممتُ أكثر بمعرفة الدائرة واسم وكيل النيابة الذي يباشر التحقيقات.

استعنتُ بزملاء صحفيين من القسم القضائي والحوادث لمعرفة تفاصيل أكثر، لكن قالوا إن القضية يحطيها تكتم كبير وإن كانت الإشارات تضئ بأنهم اقتربوا من معرفة القاتل والقبض عليه.

5

التقيتُ “علي البطة” في وسط البلد، حيث كنتُ في طريقي إلي مدينة السلام لزيارة منزل “دادي” بنفسي. البطة كان مدخلي منذ سنوات لهذا العالم لمغنيي وموسيقيي المهرجانات.

عالمي كان بعيدًا كل البعد عن مدينة السلام والمطرية. أنا ابن للطبقة الوسطى بلا طموح كبير لتغيير العالم، وبالكثير من الأحكام المسبقة عن كل ما لا يعرفه مما يجعله بلا فضول تجاه ما هو خارج طبقته الاجتماعية.

البطة، كان شابًا نحيفًا أسمر ذا جاذبية إيروتيكية تفوح حتى من رائحة عرقه أثناء الرقص على الأقل في ذلك الوقت حينما التقينا منذ أكثر من عشر سنوات. تعرفتُ عليه في مسرح روابط كراقص حديث. لا أعرف كيف وصل من مدينة السلام لوسط البلد، ولا كيف اكتشف عالم الرقص الحديث وتعرف عليه، لكنه كان عضًوا في فرقة تكونت في جراج قديم تم تحويله إلى مسرح. المكان والفرقة يتلقيان تمويلًا كريمًا من الاتحاد الأوروبي، لتدعيم حوار الحضارات والمركزية الأوروبية الفنية كراعية للفنون الحديثة مثل الرقص المعاصر.

أثبت البطة تفوقه، والآن، بعد كل هذه السنوات حينما التقيت به في وسط البلد، كان قد سمن قليلاً، يرتدى نظارة ذات إطار لونه أصفر وملابس بألوان زاهية، وشعره ينسدل على أكتافه، كان أقرب لشاب طري من الزمالك. سافر البطة ورقص مع عدد من الفرق المحلية والعالمية، وشارك في الكثير من الفعاليات والمهرجانات، حصل على منحة للرقص في فرنسا، استغلها لتعلم اللغة وأتقن الحديث بها، وإن كان ضعيفًا تمامًا في كتابتها أو القراءة بها، لكنه عرّف نفسه بعد عودته كمصمم رقصات، ونشر إشاعة عن حصوله علي دبلومة في تصميم الرقص. على كل حال، كان ينام مع مسئول العلاقات الثقافية الفرنسي، وكون فرقته الصغيرة للرقص التي كانت باستمرار تتلقى تمويلاً فرانكفونيًا كريمًا.

تصافحنا أمام تقاطع شارع محمد بسيونى مع شارع شامبليون. تبادلنا السؤال عن الأخبار ثم أخبرته أنني في طريقي لمدينة السلام لزيارة أهل عبد السلام حيث لم تسنح لي الفرصة لتعزية والدته، والتي غابت عن الجنازة حيث كانت منهارة في المستشفى. لم أخبره كذلك أنني كنت آمل في معرفة تفاصيل أكثر عن الحادث ومجرى التحقيقات. قال إنه سيأتي معي، وإنه سمع أن المباحث قد عثروا على القاتل. لكنه على الأرجح مجرد ضحية يتم تقديمها لإنهاء الجدل الإعلامي حول الموضوع.

قررنا القيام بالرحلة معًا، ركبنا أتوبيسًا مكيفًا نحو عين شمس، جلست أنا وهو متجاورين، أمامنا كانت تجلس سيدة ضخمة نموذج محاكاة لأم مصرية، غير أن أذنيها كانتا على شكل أذني أتان يخترقان الحجاب ويظهران بأريحية خارجه، لكن على العكس من أذني الحمار لا يحتويان على شعر يغطيهما، بل جلد بلون مماثل لبشرتها السمراء. فساد الأغذية والمبيدات المسرطنة التى تغلغلت في معظم التراب المصري، وارتفاع معدلات التلوث التى تضاعفت بعد التسرب الإشعاعي واستخدام الفحم في توليد الطاقة، أدوا لظهور خرائط جديدة من الأمراض والتحولات الجينية، وكامتداد لآلاف السنين من التكيف مع الطبيعة والسلطة تمكن المصريون من الحياة بأريحية مع كل ذلك.

علمت من البطة، أنه آخر مرة التقي بدادي في مارسيليا منذ حوالي عام حينما كان يشارك بالغناء في مهرجان ثقافي تحت شعار الربيع العربي والثورات التي تصنع المعجزات. رغم مظهره المهذب وقشرة الحداثة، كان أثناء حديثه  يتوقف ليشخر، ثم يجمع البصاق في فمه ويبصق على أرضية الباص المكيف. تصنعت عدم الانتباه وركزت على الهراء الذي كان يتلفظ به حول مشروعه لتصميم عرض راقص مبني على أغاني المهرجانات، والموضوع، الذي كان اختاره كتيمة لعرضه هو قصة صعود وحياة دادي، كمغني مهرجانات شعبي وصل للعالمية.

كان يأمل في الحصول على موافقة “دادي” لاستغلال أغانيه في العرض، لكن الآن وقد توفى فعلى الأرجح يسعى لتوطيد علاقته بالعائلة للحصول على اذن منها.

تذكرت بعد أول نصف ساعة معًا لماذا توقفتُ عن لقاء على البطة، كان مخوخًا ومع تقادم العمر فقد حسه الفكاهى وخفة دمه خلف نظَارة تصنع الوقار والعمق الفني الفرانكفوني. حينما التقيته كان لا يزال مُحتفظًا بالابتسامة على وجهه كمن يرتدي عدسات لاصقة، ويستعين بالفهلوة وخفة الدم لردم الهوة الطبقية بينه وبين عالم وسط البلد والراقصين الذين يتبادلون التحية والسؤال على بعضهم البعض بالانجليزية. كنّا نجلس على المقهى آخر الليل ندخن على الشيشة قطع حشيش صغيرة. ومن ثلاث مرات معدودة زرته في منزله في مدينة السلام، التقيت في واحدة منها للمرة الأولي بدادي، الذي كان وقتها مراهقًا في الرابعة عشر. يرقص مُقلدًا حركات مايكل جاكسون، مع مزيج من حركات الهيب هوب، يعمل أحيانًا في فرقة رقص وظيفته تسخين الأفراح، يذهب مع أصدقاءه إلي الأفراح، يصعدون المسرح خلف المُغنّى، يبدأون بالرقص وحمل العريس ورفعه لأعلى، ويتقاضى حوالي 50 جنيها عن الفقرة، إلي جانب وجبة عشاء.

ولعه بمايكل جاكسون ورقص الهيب هوب، قاده إلي الشغف بموسيقى وغناء الراب. أفكر الآن ربما كان لقب “دادي” الذي حمله بعد ذلك نسبة إلي مغنى الهيب هوب “باف دادى”. بعد أكثر من فرح تقدم “دادي” ليمسك الحديدة. كان يقود فرق الرقص أو يذيع التحيات يمينًا وشمالًا، وشمالًا ويمينًا. دادي أصبح نبطشي أفراح، لكن الطموح كان أكبر.

6

وصلتُ مع على البطة لمنزل عائلة دادي، شقة صغيرة وسط البنايات التي بنتها الدولة على عجل لإيواء منكوبي الزلزال في التسعينات. استقبلتنا والدته، التي عانقتْ البطة وصافحتني وهي تتمتم بكلمات العزاء. كان وجهها أصفر اللون بعيون ذات لون أحمر، لكن متماسكة ظاهريًا، لديها بنتان ودادي كان أصغر أولادها ورجلها الوحيد. في الصالة علقت صورة لدادي، يبدو في الصور بشعر قصير وبشرة نضرة لم تنمو فيها الذقن مبتسمًا بأسنان بيضاء. الصورة قديمة كإنما تنتمي للابن، الذي عرفته ماما قبل أن يصبح “دادي”. وشريطة سوداء في زاوية الصورة. صوت مشاري راشد يتلو القرآن يخرج من سماعات مكبر الصوت في غرفة دادي، التي دخلتها منذ سنوات وكانت مقرًا للقاء الرجال والتسجيل والعمل والبهجة والسعادة، قبل أن يتمكن من استئجار محل صغير في دور أرضي ويفتحه بعد ذلك على شقة من غرفة وصالة لتصبح مقرًا لإقامته الفنية مغطى برسومات الجرافيتي والألوان والأسلاك والسماعات وأجهزة التسجيل والهاردات والاسطوانات المدمجة.

جلسنا برؤوس منكسة ومشاري راشد يتلو القرآن سريعًا ملتزمًا بكل تقاليد التجويد مبتعدًا عن اللحن والشبهات، فتنطلق القراءة سريعة مُتعجلة لا تترك لنا ولو ثواني من الصمت لتأمل الآية أو الاندماج في لحظة المواساة. ومع ذلك جلسنا صامتين، وقبل أن ينطق البطة أو أنا انفجرت أم دادي بالبكاء. أخذ رجل بجلباب رمادي بجوارها في تهدئتها وهو يتمتم لا إله إلا الله، لا إله إلا الله يا أختي. قدرتُ أنه خال دادي. ارتفع نحيب الأم وبدا الخال المُثكل كأنما يفقد السيطرة على الموقف، هرول طفل في الثانية عشرة على الأرجح نحوه بزجاجة ماء، ثم أشار الخال لنا بالدخول لغرفة دادي، وخرجت امرأة أخرى من الحمام وهي تفرد العباية السوداء المحبوكة على دهونها وتتقدم لتحتضن أم الدادي وتحيطها كحوت أسود يبتلعها قبل أن نلج نحن لغرفة الدادي بمصاحبة الفتى، الذي توجه نحو الكومبيوتر ليخفض صوت مشاري قليلاً.

7

تتكون غرفة نوم اليتيم نجم المهرجانات من سرير يتسع لشخصين، بمرتبة من القطن مهترئة وقاسية، كنبة خشبية مغطاة بوسائد قطنية صلبة وقمَاش مُزين بورود كبيرة، دولاب ببابين، والحائط الثالث من الغرفة تحتله طاولة الكمبيوتر ومعدات الصوت والتسجيل. كانت هذه المعدات، التي بدأ الدادي بالغناء والتسجيل عليها قبل التعرف على الدكتور، وقبل أن يجري القرش ويفتح المحل كمقر للعصابة ثم “التيم” بعد ذلك.

8

حينما جلستُ في الغرفة تذكرت أن آخر مرة دخل فيها علي البطة هذه الغرفة كان معي، بصحبه تلك الصحفية الفرنسية التي تعرفْ عليها، وتقاضى منها 50 دولارا، لكي يقودها في رحلة إلي مدينة السلام، لتقابل الدادي، الذي كان نجمه قد أخذ في الصعود. أخبرها أيضًا أنه يستطيع القيام بعملية الترجمة، وبدلاً من ذلك صحبني معه، ثم ورطني في القيام بعملية ترجمة أسئلتها لدادي وإجابات دادي لها. ولم اكتشف أنه تقاضى منها مالاً إلا بعدما أخبرنى “خمسينة” بذلك.

جلسنا في هذه الغرفة وخمسينة حاضر وشاهد. لا يقاطع الحوار، لكنه لا يتوقف عن إخراج ذيله الطويل من الشورت واللعب به أمامها.

خمسينة مستذئب. عضته سلعوة حينما كان صغيرًا، حاولوا في المستشفى إنقاذه وإعطاؤه حقنة “تيتانوس”، لكن المادة الفعالة كانت مغشوشة، فحدث له نصف تحوّل، حيث يمتلك أقدام وذيل ذئب وشعر كثيف وناعم يغطى ظهره، أيضاً يقال أن بإمكانه شم الخيانة. وحينما شمها أمسكني من يدي وأصر على المكوث بينما علي البطة يذهب بصحبة الفرنسية، وحينما أغلق دادي الباب خلفهما. قال له خمسينة “الواد دا مش تمام”. ورد دادي عليه وقد قرأه من عينيه: “عارف، قاريك يا صاحبي، محتاجين له برده، بس ابقى عيل نجس لو دخلته بيتي تاني”.

9

نزلنا من منزل دادي بعد عدة دقائق صامتة مع الخال، لم أعز حتى الأم إلا بجملة واحدة حينما دخلت، ولم أجرؤ على سؤال الخال وسط صوت مشاري راشد ونحيب الأم عن أحوال التحقيقات، عزمني البطة لتمضية السهرة معه في غية حمام أخيه فوق السطوح. لكن قدرتي على تحمل الملل والتقزز من صحبته خرقت حجر البنطلون. استأذنتُ منه ومشيتُ في شوارع  مدينة السلام، التي تحتل المساحة الأكبر منها برك من مياه الصرف نمت عليها طحالب وأعشاب طويلة لتشكل جزرًا خضراء تُغطي مياه الصرف لتتحول إلي مسطحات طحلبية في قلب المنطقة تعمل على تنقية الهواء والحفاظ على المساحات الخضراء في مدينة السلام.

مشيتُ باتجاه المحل، مكان اللقاء مع دادي في السنوات الأخيرة، ومسرح الجريمة. حينما وصلتُ وجدتُ الباب نصف مغلق وضوء أحمر قادم من الداخل. دفعتُ الباب بيدي فظهر”خمسينة”. كان المحل مقلوبًا وقد وصل خرطوم بصنبور المياه في الحمام، والماء يسيل متدفقًا على الأرضية ذات السيراميك الأسود. وخمسينة مشمرًا بنطلونه تندح المياه المخلوطة بلون أحمر إلي خارج المحل. لم نتصافح، لم نحتضن بعضنا البعض، سحب كرسيًا من فوق المكتب وعدله فجلستُ. فقد الكثير من وزنه. أخرجتُ قطعة حشيش من محفظتي، وبدأتُ في فرك الحشيش مع التبغ في كف يدي.

قال خمسينة إن الحكومة قبضت على القاتل،  واد اسمه حديدة، اتخانق هو ودادي في فرح من كام يوم. بعد الحادثة بعشرة أيام سلم نفسه وقال إنه هو اللي قتل دادي، لكن ملقوش الكبد. والواد نفسه بيقول إنه رمى الكبد.

بسبب موضوع الكبد، شكت الحكومة في خمسينة، بل الحقيقة شكوا في كل المستذئبين وأبناء الثعالب وأبناء أوى في المنطقة. هؤلاء هم الثلاث فئات المشهورة بحبها للكبد البشري. لكنهم وجدوا أخر مكالمة على تليفون دادي مع حديدة. وبالرجوع للسجلات تبين الكثير من السباب المتبادل والتوعد بنكح الأمهات والأخوات من الجانبين. مسكوا الواد ونزلوا فيه عجن. قاطعتُ خمسينة فجأة:

–        وانت كنت فين وقتها؟

10

“ربي أرحم أرواحًا اشتاقت أعيننا لرؤيتهم $$ يا رب آنس وحشتهم$$ ويسر حسابهم $$ يا رب قهم عذاب القبر واجعل قبرهم روضة من رياض الجنة”

وجدت العبارة السابقة كتحديث على الحساب الشخصي لدادي تظهر أمامي. بتلقائية أرسلتُ له على “الماسنجر”:  سلام يا صاحبي؟

أتاني الجواب في أقل من دقيقة، البقاء لله في محمد عبد السلام توفى. أنا ابن أخته، وفاتحين الحساب للأدعية والقرآن رحمة ونور على روحه.

اعتدلتُ في جلستي أمام الحاسوب وخاطبتُ حساب الرحمة والنور، لأسأله أي ابن اخت هو لدادي. كنتُ أعرف خالد المقرب أكثر لدادي، والذي كان كثيرًا ما يشركه في جلساتنا، لكن من يدير الحساب كان “حمزة” الذي قابلته حينما زرتُ المنزل لتقديم واجب العزاء مع علي البطة، ولم يسمح الظرف بالتعرف عليه أكثر.

هاتفتُ خالد، سألته عن أخباره وأحواله فقال إنه لا يزال حزينًا على خاله، لكنه بدأ يفكر في الغناء ويرغب في النزول إلي الأفراح، فاخترعت حديثًا مرسلًا، أنني أعد قصة عن عائلة دادي، وأنني أرغب في لقائه هو وحمزة في غرفة خالهما لتصويره والحديث معه. تحمس خالد وكان خاله الراحل كثيرًا ما يحينيي أمامه بأنني الصحافة والإعلام ودخلته للتلفزيون.

الباقي لم يكن صعبًا، كان حمزة يدير حساب دادي على الفيسبوك من خلال جهاز التابلت الخاص بدادي، حصلتُ على كلمة السر للدخول لحساب الفيسبوك، ولإيميله. في الحقيقة ولجتُ من التابلت على الحسابات وغيرتُ كلمة السر لكلمة أخرى. قلبتُ كذلك في بقية متعلقات دادي، التي كانت في الغرفة وأنا أدردش مع الفتيان، ثم انصرفت متقمصًا روح المفتش كرومبو.

11

لم أستطع استكشاف أرشيف مراسلات “دادي” حينما عدتُ للمنزل، صديقتي كانت في حالة نفسية سيئة وقررتْ زيارتي للحصول على حضن وحنان. ضاع المساء في صحبة حلوة وفي ضحكات وآهات.

في صباح اليوم التالي بعد انصرافها، كان أول ما فعلته إدخال كلمات السر الجديدة لحسابات دادي والاستغراق في قراءة مراسلاته وأرشيفه، وأنا أرتشف الشاي الأخضر الصباحي، في محاولة، تتجدد كل صباح للبدء في نظام الحمية الغذائية، تتبدد في المساء. من صندوق المراسلات اخترتُ أولًا محادثته مع خمسينة، وكان آخرها تقريبًا يومين قبل مقتل دادي. وبثقة أستطيع أن أقول أن أركان دوافع الجريمة كانت مكتملة، دون دلائل فعلية على تورط خمسينة في قتل صاحبه الشقيق ورفيق عمره.

لكن قلة فقط قد تفهم ما تعنيه المحادثات الأخيرة، ومن الصدف أنني كنتُ واحدا من هذه القلة حيث عشت تفاصيل الكثير مما ذكر في المحادثات الأخيرة.

12

جرت عملية إنتاج وتسويق أغاني المهرجانات في إطار إنتاجي مضاد لكل قيم السوق الإنتاجية. أولاً لم يعترف مغنو المهرجانات بحقوق الملكية الفكرية، وكثيرًا ما كان يستعيرون من بعضهم البعض الجمل، بل والأغاني كَاملة. لم يسجلوا كذلك أغانيهم، بل كانت مشاعًا إبداعيًا متاحًا للجميع يرفعونه على الإنترنت مجاناً ويتركونه مُتاحا للتنزيل لأي شخص فتنتشر الأغاني من التوك توك إلي أجهزة الموبايل، وأجهزة الكمبيوتر في نوادي الإنترنت والبلياردو.

مع تزايد الاهتمام الغربي والفرانكفوني بموسيقى المهرجانات، ظهر إسماعيل كرنب، خريج المدرسة الألماني، والمتمرد الفاشل على طبقته الاجتماعية، حاول لسنوات شق طريقه في عالم الموسيقى، لكنه أمضى سنوات في عزف أغاني الميتال باللغة الإنجليزية في حفلات ضيقة  وخاصة ومُتبَاعدة، ثم حينما تقدم في السن توفى والده فورث عنه مبلغًا من المال أسس به استديو صغير، حوله إلي شركة إنتاج “دواير”.

حمل إسماعيل لقب كرنب من سنوات لعبه موسيقي الميتال ولم أعرف ما أصل الاسم، لكن دادي كان يسخر منه في السر ويقول إنه بسبب حبه لتناول محشى ورق الكرنب، ورفضه تناول ورق العنب.

هبط إسماعيل كالباراشوت على على دادي وعلى شباب المهرجان، بحكم إجادته لأكثر من لغة أوروبية. عمل على تسويقهم في الخارج، ووفر لهم معدات تسجيل مُتقدمة، ووقع العقود مع يوتيوب وغيرها من المواقع، التي كان يبيع لها أغاني الشباب، وفي المقابل يمنحهم بضعة آلاف. نظرتُ للوضع دائمًا كاستغلال واضح وبيّن، ولم أرتح لرائحة كرنب أبدًا، لكن دادي كان ينظر إلي الأمر باعتباره أفضل ما يمكن الحصول أو الوصول إليه.

لا عقود في عالم المهرجانات بل كلمة لكلمة. وكلمة كرنب كانت أكاذيب متسلسلة. بعد عامين اكتشفوا أن كرنب كان يقدم نفسه بصفته مدير أعمالهم، ويتقاضى نسبًا من كل الحفلات والأعمال التي ينجزونها دون أن يخبرهم. وقتها كان فريق دادي قد توسع ليضم الدكتور حاحا، خمسينة، عفريت، وجماعات متعددة من الأصدقاء والمحبيين والتابعين.

أوقف دادي التعامل مع كرنب. ثم بعد أقل من عام ظهرت شركة صوت مصر، التي سعت لاحتكار كل الأصوات على الساحة بالفضة أو الرصاص. عارض دادي الانضمام لصوت مصر، وفضل العودة لجذور التسجيل الحر ورفع الأغاني على يوتيوب والاعتماد على عروض الحفلات والأفراح. لكن أمامي الآن توضح المراسلات أن خمسينة لم يرض بهذا القرار، وتشير المراسلات أن خمسينة قد وقع بالفعل مع صوت مصر، لكن “خمسينة” لوحده هو ظل “دادي”. هو الصدى لصوته، والقائم بأعمال “المردات” عليه حينما يغني. كما أن المراسلات بين الاثنين تشير لخلاف حاد وصل إلي التهديد، حيث أرادت شركة صوت مصر شراء كل حقوق أغاني الثنائي دادي وخمسينة، لكن دادي رفض التوقيع. كيف رأى خمسينة الأمر؟

رد عليه في أحد حواراتهما: “انت كدا شوكة في زوري يا شقيق،  وخاطف معاك كل شغل وسنين تعبي”.

لستُ محققًا جنائيًا، لكن اكتشفت كل تلك المراسلات والتهديدات من جانب خمسينة، والتي كان يرد عليها دادي بمحاولات الاحتواء، ورفضه التوقيع أو العمل مع صوت مصر. “لأنهم شركة عسكر ولو سلمت لهم إيدي النهاردا بكرة رجلهم هتبقي فوق رقبتي”، لذا بتلقائية شديدة رفعتُ التليفون واتصلتُ بخمسينة، الذي فاجأني بترحيب كبير وبدعوة لحضور حفل خطوبته.

13

العيشة ارتاحت. وصلت إلي مدخل الكمبوند، ذكرتُ اسم “خمسينة”، لم يعرفه أحد من رجال الأمن، أحدهم سأل: “حضرتك جاي الحفلة”. هززتُ رأسي بالإيجاب فوصف لي الطريق بعد الاطلاع على رخصتي وتسجيل بياناتها.

وصلتُ إلي الفيلا وأنا أحاول استيعاب أن كل هذا من المفترض أن يكون حفل خطوبة خمسينة، نجم المهرجانات وذئب الحديدة. لا شارع، لا مسرح، لا ورق بانجو، لا أضواء، بل “دي.جي” في زاوية من حديقة الفيلا، وحمام سباحة حوله ينتشر الحضور والضيوف. مبنى الفيلا نفسه بلون أبيض من ثلاثة أدوار على جدرانه حفرت أجنحة لطيور جارحة، وفي أعلى المبنى انتصبت على زاوية تماثيل بيضاء، كل واحد منها بطول متر يمثل النسر المصري الهزيل في وضع محير بين محاولة تصنع الشموخ ومظاهر الاكتئاب. في مقابل المبنى الأبيض ذي النوافذ والأبواب الخضراء يوجد مبنى آخر حديث، لكنه أصغر، من ثلاث غرف ودور واحد أقرب إلي أن يكون بيت حمام السباحة، لكنه مبنيٌ بطراز معاصر، حيث تتداخل جدران الأسمنت المصبوب مع الزجاج المعتم.

لم أشاهد أحدًا أعرفه بشكل شخصي، وإن كانوا جميعًا نجومًا من السينما والتلفزيون، وعاملين في قطاع الترفيه والإعلانات والصناعات الغذائية. ولا شئ من رائحة مجاري مدينة السلام.

لمحتُ الدكتور حاحا في زاوية. كان واقفًا وفي يده “جوب” يدخنه بهدوء في عزلة كما العادة. توجهتُ نحوه، لكن في منتصف الطريق، شعرتُ بحبل من الفرو يلتف حول ساعدي الأيمن ويمسكني، كان هذا ذيل خمسينة.

– صاحبي..

ابتسامته مفشوخة على وجهه من أقصي اليمين لأقصي اليسار. صافحته مهنئًا. لكنه حضنني في مبالغة عاطفية لم أفهمها. وقبل أن نبدأ فاصل السلامات والتحيات. سمعتُ صوت نهيق غريب تبعه نداء على خمسينة. ضحك معتذرًا: “الجماعة، تعالى لما أعرفك”، جرني من يدي فوجدت أن خطيبته، التي أصبح يناديها بالجماعة هى فاطمة الفقمة. الممثلة الكوميدية والمغنية.

ظهرتْ فاطمة منذ سنوات كممثلة كوميديا. كانت ذات جسد نحيل وعظام بارزة ومعظم أدوارها تعتمد على السخرية من جسدها، ثم قررت تغيير كل هذا والقيام بسلسلة من عمليات التجميل. أحدث الصرعات وقتها كانت استخدام دهن حيواني مستخرج من الفقمة بدلاً من السيلكون، لكن لسبب ما تسببت العملية بعد فترة في تحورات جينية لفاطنة، التى غيرت اسمها ليصبح فاطمة وبعد التحولات الجينية منحها الجمهور لقب فاطمة الفقمة، حيث نمت أعضاؤها الأنثوية، وظهر لها لغد تحت ذقنها، كما تغير صوتها ليصبح ذا إمكانيات غنائية وموسيقية حققت نقلة جديدة لها في مشوارها الفني، حيث احترفت إلي جانب التمثيل الغناء الأوبرالي والخليجي، والآن ها هي على الطريق للزواج بخمسينة، نجم المهرجانات الصاعد والذي يصغرها بأكثر من عشرة أعوام.

14

في سلسلة أفلام الأب الروحي كانت الاحتفالات الدينية والعائلية كما في تقاليد المسرح الشكسبيري هي الفضاء المكاني والزماني، الذي تقدم من خلاله الشخصيات وتظهر البذور الأولى لطبيعة علاقاتها. وقد بدت حفلة خطوبة “خمسينة” بداية لفصل في عالم جديد، ربما كان موجودًا من قبل وجودي حتى، لكن سمح لي بدخوله لأول مرة في تلك الليلة.

ارتفعت الموسيقى بعد مُنتصف الليل، لكن من دَاخل البيت الصغير الملحق بحمامِ السباحةِ يمكنك مُشَاهدة كل شيء في الحديقة دون أن يصلك أي صوت بسبب العوازل الصوتية والزجاج المضاعف على الأرجح. بدا المنظر جذابًا أن تشاهد كل هذه الجموع وبعضها يتحرك منفعلاً مع الموسيقى والأغاني دون أن يصلك أي صوت، فقط خرير المياه من الصنبور في الحمام الملحق بالغرفة الواسعة.

صمت صوت الخرير، وسمعتُ صوت كعب عال على السيراميك، ثم صوتها قاطعني من السرحان مع مشهد الرقص الصامت :

–  مضاد للرصاص وعازل للصوت والحرارة كمان.

في الغرفة كان هناك سرير واسع، كرسيان من تلك التي يمكنها أن تتصل بتطبيق على جهازك المحمول لتتحول لوضع تدليك عضلات ساقيك وظهرك ومؤخرتك كذلك، أمامهما طاولة زجاجية وأريكة وثيرة يجلس عليها الدكتور حاحا. على الطاولة كانت هناك سطور من مسحوق أبيض، لكن الدكتور كان يفضل الجوينت مشتعلاً في يده وصفيحة البيرة المعدينة في اليد الأخرى. في الزاوية المقابلة يوجد مكتب بسيط الطراز، خلفه جلس الأستاذ بركات في بدلة واسعة عليه، كما سيظل منذ أول لقاء، وإلي أن يدفنوه على الأرجح.

تقدمت د. فايزة نحوي وهى تمد يدها بالسلام، أحسست بالرطوبة في كفها وكنت لا أعلم لماذا أنا هنا، ومن هى د.فايزة سوى أن اسمها يظهر كعضو منتدب في تكتل شبكات وقنوات الحياة والتحرير والتنوير. كما أعرف أنها شريكة في أكبر شركة إعلانات في السوق، التي تحتكر صناعة الإعلانات الإلكترونية ورعاية المواقع الإخبارية. لا أعرف أيضاً ما الذي كانت تقصده بالمقدمة الطويلة التي تحدثت فيها عن التكنولوجيا وانترنت والعالم الجديد والسوق المليء بالفرص، وموقع يوتيوب، الذي يريد أن يسرق عَرَقَنا وشقانا ويمتص الطاقة من أرواحنا ثم يرمي لنا بالملاليم. أخذت تتحدث وأنا أهز رأسي أو ابتسم، وحينما توقفت لثوان لالتقاط أنفاسها بين جمليتن، نظرتُ لدكتور حاحا بمعنى، “إيه يا صاحبي مفيش حاجة علينا”.

ناولني الدكتور نصف الجوينت مشتعلاً، ويبدو كأن د. فايزة فهمت الأمر كإشارة على تململي. فانتقلت إلي كرسي المساج وجلست عليه، وقد أخرجت هاتفها ايفون وهي تخاطبني:

–        شوف يا أحمد باختصار، أنا عايزة منك خطة مكتوبة ومنظمة لطريقة عمل. إزاي نقدر ننقذ صناعة المزيكا في مصر ونحتوي الشباب اللي على الإنترنت.

هبط صمت على الغرفة. رفعتُ هي الهاتف وهي تكتب شيئا ما على شاشته، ثم أدارات رأسها نحو حاحا قائلة :

–   يعني مثلا تقدر تفهمني إزاي مفيش ولا أغنية مهرجانات وطنية، ولا حاجة لجيش مصر.. ينفع كدا، عايزين الناس تحبكم وأغانيكم تظهر في التلفزيون وتكسبوا فلوس إزاي طيب؟

هدأت أعصابي وارتخت عضلاتي بعد ثالث نفس من الجوينت، وقلتُ هذا حسن.

15

لم يتجاوز حسابي في البنك طوال حياتي الـ12 ألف جنيهًا، لكن بعد شهر واحد من العمل الخفيف القائم على الاجتماعات والتخطيط مع د. فايزة، كان سجل البيانات في الحساب يظهر كيف تجاوز الرصيد الخمسين ألف جنيهًا، كل هذا في شهر واحد فقط. تذكرتُ صيحة شاعر الغية في مهرجان نسيتُ اسمه “نسرق يعنى ولا نبيع بودرة”، في الحالتين لم يكن بامكان أن تجني خمسين ألف جنيهًا في الشهر، وكنتُ أعرف أن هذه هي البداية، لأنه ما أن يبدأ العمل الحقيقي وترتفع المبيعات وتنهمر أموال الأرباح سأحصل على نسبة من الأرباح، لا على أجر شهري فقط.

لم أدر ماذا أفعل بخمسين ألف جنيهًا. أوقفتُ تاكسي، وطلبتُ منه التوجه إلي فندق المواسم الأربعة، قررت منح نفسي جلسة مساج وحمام مغربي وتنظيف وتدليك وباديكير.

16

اعتمدتْ خطة التسويق على عدة مسارات. كنتُ أعلم أن مسار عوالم الليل والأفراح وليالي الحظ في جيبنا، تبقى لديّ مسار كيفية الوصول إلي الطبقة الوسطى وإشعارها بالانتماء وأن موسيقي المهرجان لا تظهرها بمظهر أقل من مكانتها الاجتماعية، إلي جانب الوصول إلى سياق يمَكّن السلطة السياسية وآلات إنتاج الخطاب الوطني من مسار يمَكُنها من التعامل مع هذا الفيض، وهذه الطاقة “الفرتكة” الكامنة في إيقاع المهرجان.

استلهمت مسيرة مغنّيي الراب الأمريكان، وكان المسار هو خلق أيقونة غامضة مليئة بالإشاعات من وفاة دادي، والتي فشل الأمن في تلفيقها لأي شخص وتم قيدها ضد مجهول. وزعت في محطات الميكروباص وأمام المدارس الثانوية والإعدادية بوسترات تضم “بوب مارلي، تو باك، ودادي”. ثم بوسترات متعددة لدادي.

قبل كل هذا بالطبع أقنعتُ الأم الثكلى لدادي والخال، الذي هبط على الأسرة مُقيمًا لدور الذكر الحامي في البرية، بالتوقيع معنا بمقابل مقدم مادي كبير، وحصلنا بذلك على حق انتفاع واستغلال لكل أعمال دادي، التي لم تكن مُسجلة. تولت د. فايزة والأستاذ بركات عمليات شرعنة موسيقى المهرجان ومنتجاتها، تمّ ترسيخ قوانين الملكية الفكرية، رفعا أكثر من قضية على محمود مطبعة، وطاردت مباحث المصنفات “الدي جي”، الذين يشغلون أغاني المهرجانات دون الحصول على تصريح.

في العالم الجديد لم تكن هناك مساحة للمنتجين المغامرين الصغار، كمطبعة أو استديو كانكا. في العالم الجديد منتجات موسيقي المهرجانات تشمل الموسيقى والأغاني، وخطوطًا لإنتاج الملابس والسلاسل والإكسسوارات، إلي جانب البوسترات وإكسسورات السيارات والتوك توك، بل وصل الأمر إلي تصنيع برفانات شعبية بأسماء الأغاني الشهيرة ومغنّيي المهرجانات نجوم العالم الجديد، ثم دون قصد مباشر، غرق الإنترنت بصور وأغاني دادي. كان الصغار يحبونه، وتحوّل بسبب وفاته شابًا، وأغانيه التي امتلأت بالعنف وسرد أحداث العراك والخناقات، إلي جانب الروح الواثقة من نفسها وبأن “المزيكا من راسي لكعبي/ تسمع راب أو تسمع شعبي / أجيب المضمون في الكون بكعبي” أصبح ارتداء التي- شيرت، الذي يحمل صورة لدادي وهو يفتح مطواة وجوينت في زاوية فمه من أيقونات الملابس التي يقبل الجميع على ارتدائها، وعادت الموسيقي القديمة للحياة، لكن هذه المرة لم تكن متاحة للجميع مجانًا على انترنت، بل يمكنك تحميلها بـنصف جنيه من على انترنت. وفي الأعياد والمواسم هناك عروض خاصة يمكنك فيها تحميل الأغنية بعشرة قروش.

خلقنا كذلك خطوط إنتاج جديدة شملت إعادة بعث للمغنين القدامى. خمسينة مثلا أنتجنا له ألبومًا مع عدد من نجوم الغناء العرب. قام بتوزيعه الدكتور حاحا وتحول الألبوم إلي قدس الأقداس في ليالي الأفراح والرقص. شمل الألبوم أغاني حققت تزاوجًا بين المهرجانات والغناء الخليجي وأقبل عبد الله بالخير، حسين الجسمي، وعد، وغيرهم من مغنّيي الخليج على موسيقى المهرجان. كذلك ظهرت أغان كسرّت الدنيا وولعت في سقف المكان، شملت تزاوجًا بين الموسيقى البدوية الشامية وموسيقى المهرجانات. كان المال يتدفق والسيادة تترسخ، وحافظنا في الوقت ذاته على وجود المعترضين والمهاجمين حتى يظل موضوع موسيقى المهرجانات حاضرًا كموضوع للنقاش في برامج التوك شو، والنقاشات الإخبارية، وفي كل برنامج يستضيف موسيقيًا أو مغنيًا من مغنّيي شركتنا، كنتُ أصر على ضرورة الاتصال بحلمي بكر، لكي يقدم مداخلة يهاجم فيها مغنّيي المهرجانات.

مثل هذا الاعتراضات تقوي من شخصية الموسيقى وترسخ انتماء الأجيال الشابة لها، وتجعلها وسيلة للإعلان عن الهوية والاستقلالية في مقابل أمثال حلمي، تمهيدًا للغد الجديد، الذي لا يكون فيه مكان لحلمي سوى في مقبرته بينما يصعد نجوم السعادة.

أنا كذلك كنتُ أودع العالم القديم لحياتي، أبتعد عن الصحافة والكتابة، ويومي يضيع في اجتماعات وترتيبات لحملات إعلانية وحفلات وهلك واستهلاك للوقت والسجائر وآلام في الظهر من قلة المشي والحركة، ونصيحة من أستاذ بركات بضرورة المشي نصف ساعة على الأقل يوميًا، وتحذير من د.فايزة بضرورة المحافظة على لياقتي والتخلص من هذا الكرش، فذهبت إلي الجيم وتناولت البروتين والمكملات الغذائية، غيرت جسدي وازداد معدل استهلاكي للويسكي والكونياك، وكلما شعشعت الرأس ذَكَرتُكَ والرِّماحُ نَواهِلٌ مِني وبِيضُ الهِندِ تَقطرُ من دَمي، قلتُ ألف رحمة ونور عليك دادي.

لكن مع كل ما صار عرفتُ في قرارة نفسي أن مهمتي لم تنته بعد، كأي فن وكأي نوع موسيقى، لترسيخه في التاريخ الرسمي والوجدان المصري يجب أن يحوز رضا السلطة ويتداخل مع نسيجها الوطني، ودعامته الأساسية هي الخطاب الوطني القائم على الانتصارات العسكرية، كانت هذه هي النقلة الأكثر تعقيدًا.

17

لا يمكن أن ترث الأرض وما عليها ولا أن تحصل على الأربع وعشرين قيراطًا. علاقتي العاطفية كانت تنهار تحت ضغط المشاغل واحتضار الشغف. جلسنا معًا في جلسة للبحث عن مخرج أو إيجاد أي نبض في هذا الحب المتسرب من أصابعنا. لكن رن الهاتف في منتصف الحديث فظهر رقم أستاذ بركات، ولأنني كنت أنتظر هذه المكالمة فقد أجبت، وأنا أقول لها دقيقة واحدة.

أعطيتها ظهري وأنا أجيب على الهاتف. كان بركات يخبرني بأنهم تمكنوا من عقد الاتفاق مع الهيئة لتنظيم احتفالية انتصارات أكتوبر الثورات المجيدة. سألته عن التفاصيل ونبضي يرتفع مع انهمار الأخبار التي كنتُ انتظرها، وحينما أنهيتُ المكالمة والتفتُ لأبحث عنها، لم أجدها في المكان.

18

شملت احتفالات النصر العظيم وثورات أكتوبر مشاركة قوات رمزية من كل الأسلحة، لصنع استعراضات ،مبهرة في ساحة الاستاد. قام الدكتور حاحا بتأليف وتوزيع كل الموسيقى في الاحتفال، من الألحان الشرقية التي صاحبت اللوحات التي صنعتها التشكيلات في الساحة مع تقاطعات أضواء الليزر.

حكت اللوحات قصة كفاح الأمة المصرية شعبًا وجيشًا من فجر التاريخ حتى أثمرت شجرة الوطنية، التي روتها دماء الشهداء. وعلى الشاشة الكبيرة، التي تحتل خلفية المسرح. مع سقوط آخر شهيد في اللوحة، التي تنفذها التشكيلات. ظهرت صورة دادي وهو يقف منتصب القامة مشدود الصدر، مؤديًا التحية العسكرية وعلم مصر يرفرف خلفه، والموسيقي تعزف النشيد الوطني، ثم فجأة تتداخل موسيقى النشيد الوطني مع صوت “البيز” وإيقاعات الطبول الإلكترونية، ويظهر خمسينة على المسرح وهو يصرخ بصوت أجش خشن: “أنا أوزع أنت ترزع / أنا أغني أنت تسمع / مصر بلدي فيك هتوجع”، إلي آخر مهرجان بلادي وبطلي كايد الأعادي، وأكدتُ عليه في هذه الحفلة بالذات أن ينظر ويشير بيده باتجاه الرئيس مع كل مرة يقول فيها بطلي. وفي منتصف الأغنية اقتربت الكاميرا من وجه الرئيس، الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة بسيطة، ثم لقطة واسعة للصف الأول حيث يجلس بجواره كبار رجال ونساء الدولة، وبعيني لاحظتُ رِجْل الرئيس اليسرى تهتز مع الإيقاعات. كانت هذه اللقطة أهم عندي من المصافحة التي حظيت بها معه.

19

قررتُ قضاء يومين في المنزل بعد إرهاق تنظيم الحفل الذي استمر لشهور. استيقظتُ بعد نوم عميق. اتجهتُ للحمام وغسلتُ يدي ووجهي، فرّشت أسناني، وقررتُ حلق ذقني، التي لاحظتُ فيها بعض الشعيرات البيضاء.

لكن أولاً قررتُ طهو قطعة استيك مع مكرونة بالصوص الأبيض. خرجتُ من الحمام واتجهتُ للثلاجة لإخراج اللحمة حتى تفك أثناء حلقي لذقني وأخذ الدوش. فتحتُ “الفريزر” فوجدتُ كيس حفظ مغلق بإحكام وفيه ورقة كتب عليها “أنت مع دادي”، فتحتُ الكيس، كانت هناك شريحة لحم بنصف حجم كف اليد، لمستُها بطرف إصبعي. كانت حمراء قانية تقترب من اللون الأسود في بعض أجزائها. وضعتُ طرف إصبعي على أنفي، كانت عليه بقعة حمراء من أثر ملامسة اللحم، ما أن تذوقتها واضعًا إصبعي في فمي، حتى عرفت أنها جزء من كبد دادي.

هل انتهى زمن الأغنية البديلة؟

نشرت على موقع معازف عام 2013

مقدمة موجزة للتأصيل التاريخي

قاد جمال عبد الناصر ورفاقه منذ الخمسينيّات عمليّة تغيير جذري، ليس فقط للنظَام العام للدولة وأجهزتها التنفيذيّة، بل للفضَاء العام والمجتمع ذاته من أجل تطويعه في آلة ضخمة لتحقيق مشروع ضخم لم تتضح أبداً معَالمه– وإن كنا عرفناه كأجيال لاحقة بـ“المشروعِ الناصري المُجهض“.

كان الفن والثقافة من ضمن تلك المجالات التي تعرّضت لعمليّة تطويع ضخمة شملت سيطرة الدولة على وسائل البث والنشر من إذاعة وسينما وتلفزيون بعد ذلك، وامتدّت لاحقاً لتشمل أدوات الإنتاج الثقافي والفنّي نفسها، ليتم تأميم الصحف وشركات الإنتاج الفنّي تحت ذرائع مختلفة.

تحرّكت دولة عبد الناصر في مجال الأغنية على مستويين أساسيين: المستوى الأوّل: امتلاك أدوات الإنتاج والبث، وبالتالي: التحكّم في الأغنية العربيّة والمصريّة، والمُسَاهمة في إضفاء تابع القدَاسة على نجومها المرضيّ عنهم، عبد الحليم وأم كلثوم نموذجاً، أو تهميش آخرين لانتمائهم إلى العهد البائد، صفر علي وفؤاد المستكاوي، أو لأن أغانيهم ليست أغانٍ هادفة، شكوكو نموذجاً.

pict0031

أما المستوى الثاني فقد كان جزءاً من خلق عملاق وزارة الثقافة، وقاده وقتها زكريا الحجّاوي الذي طاف المدن والأقاليم لجمع الفنانين الشعبيين من الموالد ومن الفضاء العام، وتحويلهم لموظفين يؤدّون فقرات ثابتة وجاهزة على مسارح الدولة.

لكن ومثلما تعملنا من “فوكو“: أينما وجدت السلطة وبدأت في ممارسة أدوات تسلّطها، وجدت المقاومة. لذلك، لم تمر عملية سيطرة الدولة على الأغنية من دون مقاومة التي برزت أوّل صورها في تجربة الشيخ إمام. لكن على هامش آخر، ومع نهاية الستينيّات، ظهرت مجموعة من الفرق الشابة المتأثرة بالتطورات النوعية التى حدثت في مجال الأغنية في أوروبا وأميركا. وتجلّت في عدد متنوّع من الفرق بداية من”The Rocket” و“The Black Coats”، ومشاريع إسماعيل توفيق الحكيم الذي مات منتحراً بعد ذلك في ظروف غامضة.

للآسف، لم تحمل تجارب تلك الفرق خلفها ميراث آيدولوجيّاً أو جماعة ثقافيّة مولعة بأمجاد التاريخ كاليسار لكى تحفظ لنا تجاربها الموسيقيّة. بينما توفّرت مثل هذه الظروف للشيخ إمام، الأمر الذي كفل لتجربته الاستمرار التاريخي كنموذج لما سيعرف بعد ذلك بـ“الأغنية الملتزمة“.

توسّع الهامش أكثر فأكثر مع سنوات السبعينيّات والثمانينيّات كنتيجة لتراجع تسلّط الدولة النسبي على مجال الفن والثقافة، ولظهور تقنيات بث ونشر جديدة أقل تكلفة وأوسع انتشاراً ويصعب السيطرة عليها كشريط الكاسيت، حتى أصبح هناك تيّار غنائي كامل يعرف باسم “الأغنية البديلة“.

لم يتّضح أبداً ما هو التعريف الدقيق للأغنية البديلة، لكن اصطلح على وصفها بالأغنية القابعة في الهامش بعيداً عن آلات البث الخاضعة لسيطرة الدولة التى تضخّمت لتصبح نظاماً وشبكات إنتاج خاصّة قد لا تكون تابعة للدولة، لكنها تمارس دور النظام الحاكم. لكن تسمية “الأغنية البديلة” لم تشمل أبداً الأغنية الشعبيّة بداية من أحمد عدويّة وسلالته، بل تم وضعهم في ركن منفرد، أو التعامل معهم كإفراز لحالة مجتمعيّة سياسيّة ملتبسة وغير مفهومة.

جاء ذلك في وقت تراجع فيه اهتمام الدولة مع الوقت بتأكيد سيطرتها على المجال الثقافي والأغنية، إلا في قضايا حساسّة، وللحفاظ على الخطوط الحمراء في الوقت ذاته. صحيح أن الآلة الإعلاميّة للدولة، والتي ظلت الأضخم والأوسع انتشاراً، حافظت على انحيازها للأغنية للرسميّة– لكن على حساب لتجارب الموسيقيّة المختلفة الشابة، أو حتى لتلك التي تحمل اسم الأغنية الشعبيّة، ناهيك عن استبعاد الغناء المحلّي، وكل ما هو خارج القاهرة من الطنبورةوحتى الغناء البدوي، والتعامل معها كمنتجات فولكلوريّة مكانها مساحة بسيطة في فرق الفنون الشعبيّة.

مشهدان وبضعة أسئلة

طوال أيام الاعتصام الذي أعقب مظاهرات 28 يناير، كان الميدان ساحة لإذاعة الأغاني الوطنيّة، بداية من تلك التي ظهرت مع المشروع الناصري المجهض، وحتى أغاني الفرق الشابة الجديدة التي تكرّر نفس التجارب القديمة، وتخلط هتافات المظاهرات بالموسيقى.

كان الميدان بالنسبة لكثيرين حالة من حالات الفن الجميل. وفي يوم 11 فبراير في ميدان التحرير، وفي إحدى الإذاعات، ومع ارتفاع موجات فرحة الجماهير وطوال أكثر من ثلاث ساعات، كانت الموسيقى التي يتم بثها هي موسيقى المهرجانات فقط: بداية من عمرو حاحا وفيجو وحتى 8%. لماذا اختفت حالة الفن الجميل مع الاحتفالات إلا من شرفة حزب التجمّع فقط التي كانت تبث أغاني عبد الحليم يومها، وتم استبدالها بأغاني المهرجانات، ومنها أغنية مهرجان “يا حسني سيبنا حرام عليك“؟ ولماذا بعد ذلك تقوم مؤسسة كالمورد الثقافي باستضافة نجوم المهرجانات كـ“إسلام شبيسي” و“عمرو حاحا” في مسرح الجنينة؟ بينما تستضيف البرامج الحواريّة على التلفزيون الرسمي والقنوات الفضائيّة فرق كـ“إسكندريلا” وغيرها؟

جرت العادة أن تختار شركات المشروبات الغازيّة نجماً غنائيّاً عالميّاً وعربيّاً ليقوم بحملتها الإعلانيّة السنويّة. وكانت بورصة النجوم تتغيّر تبعاً للنجم الذي ستختاره الشركة كل عام. اختيار نجم ما لإعلان واحدة من شركتي المشروبات الغازيّة يعد بمثابة تنصيب هذا الفنان كنجم للعام.

بعد عام من الثورة، اختارت شركة مشروبات غازيّة فريق “وسط البلد” للقيام بحملتها الإعلانيّة، بينما اختارت الشركة الأخرى فريق “كايروكي“. تنتمي الفرقتان للأغنية التى ظهرت قبل الثورة وتنامى جمهورهما في الأماكن الثقافيّة المستقلة التي كانت تستضيف حفلاتهم، أو من خلال تسجيلاتهم التى كان يتم تبادلها مجاناً على الإنترنت. لماذا بعد الثورة يتم اختيار فرقة مستقلة لتنفيذ إعلان شركة مشروبات غازية؟ لماذا لم يتم اختيار عمرو دياب أو حمادة هلالأو محمد فؤاد، رغم أن الثلاثة قدّموا أغاني للثورة؟ وهل يمكن استمرار وصف الأغنية التى تقدمها فرق موسيقيّة تقوم بعمل إعلانات لشركات مشروبات غازيّة بأنها أغنية بديلة أو مختلفة أو مستقلة؟

“التطوّر الطبيعي للحاجة الساقعة“

في كتاب عبد الله كمال وابراهيم عيسى عن الأغنية البديلة الذي صدر في طبعة واحدة تقريباً على نفقتهما في الثمانينيّات، يبدي جميع الفنانين الشباب الذين يقدمون ما اصطلح عليه المؤلفان باسم “الأغنية البديلة” استياءهم من اضطرارهم للغناء في كباريهات شارع الهرم. مصطلح الأغنية البديلة في الثمانينيّات كان يعني تجارب علي الحجار ومحمد منير وجيلهما الذي حارب في سنوات “العدم” من أجل وجود مكان وشركات إنتاج تتبنى تجاربهم الغنائيّة.

لكن مع بداية الألفيّة، ومع سياسات العولمة والانفتاح الاقتصادي التي سمح بها النظام لتشمل السماح بالتمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، ومنها تلك التي تركز على التنمية الثقافيّة، تغيّر المشهد ليصبح هناك منظومة كاملة ترعى ما يسمّى بـ“الفن البديل” في كل المجالات ومنها مجال الأغنية.

سمحت هذه المنظومة بتكاثر الفرق الغنائيّة الشابة، وبتوفير المسارح وخيارات الدعم. لكن ظلّ معيار استحقاق دعم الفن، لدى هذه المنظّمات، مقتصراً على تلك التجارب الغنائيّة التي تتكئ على تراث مشاريع الأغنية البديلة منذ الستينيّات. لهذا، حمل قاموس الكلمات والجمل اللحنيّة في تلك التجارب الغنائيّة أطياف وأرواح تجارب سابقة، بل وأحياناً بدت بعض تلك التجارب استنساخاً لما كان.

لم تكن منظومة إنتاج الفن المستقل، التي وفرتها مؤسسات التنمية الثقافيّة المختلفة، تتحرّك أيضاً بالحريّة الكافية:إذ حافظ ظل الدولة ونظامها وخطوطها الحمراء على التواجد، ثم ظل الخطوط الحمراء بالنسبة للمجتمع والذوق العام. الأمر الذي أثّر بدوره على طبيعة تلك التجارب الفنيّة، فابتعدت عن المحظورات السياسيّة والاجتماعية أو الحسيّة. وخارج هذه الخطوط، لن تجد لك مكاناً تحت ظل صناعة الفن المستقل.

لكن التطور التكنولوجي في تلك الفترة أيضاً فتح أبواب لعالم آخر من خلال الإنترنت. فحتى إذا كنت بعيداً عن منظومة الفن البديل، ولا تمت بأي صلة للفن الرسمي، وحتى إذا كان ما تقدمه محاولة للتجريب أو التخريب أو العبث، يمكنك من خلال الإنترنت نشر تلك التجربة بدون اشتراط الكشف عن الهويّة عليها إذا كانت لديك تخوّفات من ردود أمنيّة أو اجتماعيّة.

سمح الإنترنت بخلق عالم جديد وتجارب جديدة. وأصبحت صناعة الفن البديل تحاول اللحاق بركاب هذا العالم.لهذا، لم يجد مكان مثل “الساقية“، الذي كان يرفض في بدايته استضافة حفلات الفرق التي تقدّم موسيقيي “الراب“، أمامه بعد فترة إلا القبول بهم، خصوصاً بعد أن تحوّل بعضهم بفضل الانترنت إلى أسماء لديها جمهورها.

نهاية العالم القديم

خلق تكاثر وسائل الإعلام في مصر ما بعد الثورة من قنوات فضائية لإذاعات لصحف معادلة أخرى: الحاجة إلى منتج لتغطية كل ساعات البث والصفحات البيضاء، وفي وقت يتزايد فيه الاهتمام بالشأن السياسي. هنا، يزداد الطلب على الأغنية الوطنيّة، وتصبح المطالبة برد الاعتبار للفن البديل في تصوّر البعض نوعاً من الانتصار لوجهه نظر سياسيّة.ناهيك عن استخدام الأغنية في خدمة العمل السياسي كنوع من البروباغندا الإعلاميّة. وفي هذا الحالة، لا يصبح التقييم الفنّي – الذي هو بطبعة مسألة نسبيّة– مسألة تقتصر على مستوى مكوّنات العمل الغنائي، بل تمتد لتشمل طبيعة رسالته السياسيّة والآيدولوجيّة، ومواقف الفنان السياسيّة.

لكن المدهش أنّه بدلاً من أن يدفع هذا الأمر إلى تطوير الأغنية السياسيّة والوطنيّة تطوّراً نوعيّاً ينعكس على فن البروباغندا السياسيّة، تأتي تلك الأغاني خالية من أيّ طموح للاختلاف أو التجريب. بل يجمعها المباشرة والإصرار على استخدام القوالب الموسيقيّة الجاهزة، وبالتالي يختفي الفرق بين أغنية “شهداء 25 يناير ماتوا في أحداث يناير” لحمادة هلال، وأخرى يقدّمها فريق “كايروكي” مع عايدة الأيوبي “ياه يالميدان كنت فين من زمان بتجمعنا“.

لم يعد الغناء البديل بديلاً لأي شيء. فقد روحه التجريبيّة وخياله غير المؤطّر، لكنه احتفظ بالختم التى حمله قبل الثورة: بوّابته الحاليّة نحو العالميّة والتجارويّة.

وفي هذا الحالة، لا يقتصر التحدّي فقط على الفنانين الموسيقيين بخروجهم من العباءة الهلاميّة لذائقة الفن البديل، بل أيضاً على تلك المؤسسات الثقافيّة التى رعت هذا الفن طوال السنوات الماضيّة، والتي يبدو واضحاً تخبطها أكثر من الفنانين أنفسهم في العام الماضي من حيث استضافة فرق موسيقيّة في تظاهرة كـ“الفن ميدان” في الشارع، واستضافة إسلام شبيسي على مسرح الجنينة.

وهو تخبّط يكشف ضمن ما يكشف أن مؤسسات الدولة الثقافيّة والفنيّة ليست الجهة الوحيدة التى تحتاج إلى إعادة هيكلة والتفكير في طبيعة رسالتها، بل أيضاً مؤسسات رعاية الفن البديل والمستقل والجديد حتى لا تسقط في حالة المهرجانات فقط.

حراس البهجة.. ملوك المهرجانات

نشر هذا التحقيق الطويل في مارس 2012 بأخبار الأدب، وقتها كانت موجة المهرجانات في بدايتها. منذ أيام أعلن السادات (يونيو 2017) الذي كان شاباً وقتها اعتزاله الغناء في المهرجانات، لينهى بذلك تجربته ورحلته مع موسيقي المهرجان التى كان أبرز نجومها، وشاركه في تلك الرحلة علاء فيفتى وعمرو حاحا، حيث شكلوا مع بعضهم البعض ثلاثي صنع أبرز أغانى تلك الفترة

نجلس علي مقهي “زهرة السلام” في مدينة السلام ومع ذلك يعرفه سُكَان المنطقة بمقهي الزلزال. يشير “السادات” إلي بركة مجاري تغطي الشارع كله أمام المقهي ويقول ساخراً:
-زي ما أنت شايف عندنا هنا مناظر طبيعية جميلة أوي.
نضحك. يتدخل علاء فيفتي موضحاً: “الشارع كله كان مرصوف حتي نهايته، وكان منظم ومرتب. فجأة الحكومة من حوالي بتاع خمس عشر سنين بدأوا يحفروا هنا، ضربوا ماسورة المجاري وسابوها كدا”.
اسأله: بيدخلوا غاز ولا إيه بالضبط؟
يجيب “السادات”: بيدخلوا وخلاص المهم يحفروا طوال الوقت.
هنا مدينة السلام آخر محطات الخط الساخن لإنتاج موسيقي المهرجانات في مصر والذي يمتد ليشمل (عين شمس، المطرية، مدينة السلام).
موسيقي المهرجانات لن نجدها علي القنوات الفضائية، ولا في المحطات الإذاعية، كما لن تجدها علي شرائط كاسيت أو اسطوانات ولا يبدي فنانوها أدني اهتمام بالدخول في عالم سوق الإنتاج الموسيقي والغنائي.مع ذلك في كل فرح تقريباً في مصر أصبحت موسيقي المهرجانات عنصراً أساسياً، وأصبحت في فترة قصيرة مُرادفاً لبهجة المصريين. هي خليط من الموسيقي الشعبية القاهرية والموسيقي الإلكترونية الغربية مع إيقاعات موسيقي “الراب” العربية. موضوع هذا الملف الأساسي ثلاثة من فرسان البهجة في عالم موسيقي المهرجانات (السادات، علاء فيفتي، عمرو حاحا) لكننا نحاول من خلاله الاقتراب من الإيقاع الجديد لمدينة بحجم وفوضي القاهرة.
خارج مدينة السلام. كانت الصحافة في القاهرة مشغولة بفتح باب الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية للمرة الأولي. والجدل الفني يتزايد حول هل يجوز اعتبار شعبان عبد الرحيم “فناناً” أم إفرازاً من إفرازات الانحطاط الاجتماعي. كان هناك المدونات وجيل غامض ينظر الكثيرون له باستهانة.
في مدينة السلام بعيداً عن كل هذا كان “علاء فيفتي” ينظر إلي مياه المجاري التي تتكَاثر كأنها كائنات حية تتناسل وتنتشر في شوارع مدينة السلام. الرطوبة تأكل المباني التي أعدتها علي عجل القوات المسلحة بعد زلزال 92. يتحرك “فيفتي” وسط كل هذا وهو يستمع إلي أغاني أحمد عدوية وفناني الراب العالميين في ذلك الوقت كان “ايمنيم – Eminem” الأبيض الذي يغني موسيقي الأفارقة الأمريكان ويحقق نجاحاً أكثر منهم كلهم ظاهرة فريدة في كل أنحاء العالم.
“فيفتي” لم يكن مشغولاً بالموسيقي فقط بل بالسينما والتمثيل. هو حالة فنية ضائعة في متاهات شوارع مدينة السلام. حاول التمثيل ولو بأدوار صغيرة في بعض الأفلام السينمائية لكنه لم يتحمل المناخ المتسلط الذي يمارسه المخرج علي مؤدي الأدوار الصغيرة. ترك موقع التصوير وفي ذهنه يدور خليط الموسيقي المفضلة عنده. أحمد عدوية مع إيقاعات الراب الذي بدأ في ذلك الوقت ينتشر عربياً وظهر له نجوم علي الانترنت والهوامش الثقافية لا التلفزيون أو السوق الرسمي. لكن الراب العربي الذي بدأ ينتشر في ذلك الوقت كان يعتمد علي توظيف إيقاعات غربية يتم أحياناً تحميلها من علي الإنترنت ثم إعادة توزيعها مع تركيب صوت المغني عليها لتخرج في النهاية عملاً متكاملاً بكلمات عربية لكن تظل الإيقاعات غربية.

x-3199
مع السادات في نادى البلياردو في مدينة السلام في شتاء 2012

ما كان يحلم به “فيفتي” أمر مختلف تماماً كان يريد تفتيت الموسيقي الشعبية تجريدها من كل الحُلي والزخارف والآلات الشرقية مع الحفاظ علي الروح ثم صب هذه الروح في إيقاع قوي وعنيف.

ذهب “فيفتي” إلي أحد أصدقائه الذين لديهم خبره في مجال الكمبيوتر وبرامج الهندسة الصوتية. علي جهاز كمبيوتر منزلي تمت صناعة أول أغنية تندرج تحت ما سيعرف بعد ذلك بموسيقي المهرجانات. الأغنية كانت بعنوان “مهرجان السلام”.

مديح طويل لسكان مدينة السلام، رجالتها وشبابها، جدرانها وشوارعها التي لم تتوقف الحكومة حتي اليوم عن الحفر أسفل منها وكسر مواسير المجاري ومياه الشرب مخلفة مستنقعات تتكاثر في معظم الشوارع.

عمي فتحي

في المرة الأولي التي قابلت فيها السادات في مدينة السلام أخذني إلي “عم فتحي”. بدا أنه لن يكون مُستريحاً في الحديث علي مقهي زهرة السلام. وحينما وصلنا أدركت لماذا سيبدو مستريحاً أكثر لدي عم فتحي.

لا يتجاوز سن السادات الخامسة والعشرين. في أي مكان علي أرض جمهورية مصر العربية هناك عم فتحي بالنسبة له ولجيله.

يتكون مكان عم فتحي من طاولة “بينج بونج” تعلوها تعريشة خشبية. غرفة صغيرة تحتل الجزء الأكبر من مساحتها طاولة بلياردو. ثم جهازا تلفزيون يتصل كل واحد منهما بجهاز ألعاب “بلاي ستيشن”. بسبب التطور التكنولوجي في العقود الأخيرة تغيرت أماكن الترفيه التي يقبل عليها الأطفال والمراهقين. لم يعد اللعب في الشارع كافياً. وظهرت ما يعرف بصالات “الفيديو جيم” البسيطة. في كل منطقة سكنية في مصر لا بد أن يوجد مكان مثل عم فتحي، وإن كان مستوي شاشات التلفزيون والألعاب الموجودة يتغير علي حسب المستوي الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة.

بينما السادات يسحب الكراسي ويسألني إذا ما كنت أرغب في بعض الشاي ويتحرك في المكان كأنه في منزله. يأتي بعض الأطفال يحادثون عم فتحي: “عم فتحي عايزين نلعب ربع ساعة بينج”.

يأخذ عم فتحي منهم المال. ثم يسحب سيجارة من علبة السادات “مارلبور أحمر”. في البداية يبدو مندهشاً لوجود صحفي ومصور في مكانه يجرون حديثاً صحفياً مع واحد من الشباب الذين يعرفهم منذ كانوا صغاراً. يأتي أحد الزبائن، ألمحه يشير نحونا وهو يقول:

-شفت الواد السادات هيظهر في التلفزيون.

حينما يطمأن لنا وتمتد الجلسة قليلاً، يأتي عم فتحي ليجلس جوارنا يقول لي:

-“السادات دا مجنون، وهو صغير كنا بنسميه المجنون. مكنش بيعمل حاجة غير المزيكا والرقص. كان أحسن واحد بيرقص في مدينة السلام”.

x-3316

الرقص

يوضح السادات عالم الرقص في الأفراح والموسيقي الشعبية قائلاً: “الرقص عندنا نوعين جماعي، وفيه يكون الشباب أحياناً جماعات مدربة ويعملون في فرقة محددة مع أحد الفنانين الكبار. أما النوع الثاني فيكون فردي. وأنا كنت أحسن واحد في مدينة السلام يرقص فردي، لكن زمان بقي.. دلوقتي الواحد كبر”.

خطوات وحركات الرقص الفردي في موسيقي المهرجانات هي خليط مركب وجديد بين “البريك دانس” والرقص الشعبي واستعراضات اللعب بالأسلحة البيضاء. في بعض الأفراح والحفلات يحكي السادات عما يمكن وصفه بالمبارزة بين راقصين.

يرقص الاثنان في مواجهة بعضهما وقدرة الراقص تنبع من تمكنه من “تثبيت” من يرقص أمامه، بالإشارات الجسدية والحركة والسرعة يتم هزيمة الخصم والتنكيل به في إطار رمزي وودي بين الطرفيين في الغالب.

الرقص في عالم المهرجانات ليس أداة تعبير فقط بل جزء من الاستعراض. الراقص يتحمل بشكل كبير مسئولية تحريك الجمهور وبث الحماسة فيه ودفعه للرقص.

فيفتي يقاطع شرح السادات ويقول: “يا سلام لو الفرح فيه شباب من الألتراس”.

جزء كبير من جمهور وروابط الألتراس خصوصاً ألتراس الأهلي والزمالك يتمركز في مناطق الخط الساخن (مطرية- عين شمس- السلام). وبحكم الروابط الأخوية بين أعضاء هذه الروابط فهم يحضرون أفراح بعضهم البعض جماعات. وتكون الأفراح فرصة لعرض الاستعراضات والتشكيلات الجماعية التي يقدمون مثلها العشرات في الملاعب.

العالمي

من الخارج يبدو عالم المهرجانات فوضوياً والعمل فيه غير احترافي. أدوات التسجيل والإنتاج شبه بدائية، وحقوق الملكية الفكرية تقريباً ليست موجودة حتي أن معرفة المؤلف أو المغني الأول لأغنية ما أمر يصعب التوصل إليه أحياناً.

الأغنية ما أن تضرب في السوق حتي تصبح مشاعاً. يأخذها أي فنان آخر ويغنيها، بل أحياناً يتم تفكيك الأغنية أو لقط الجملة الموسيقية أو اللفظية الأقوي فيها وتركيبها علي أغنية ثانية.

ينمو عالم موسيقي المهرجانات دون وجود شركات أو كيانات اقتصادية عملاقة تتحكم فيه. بالتالي فخطوات قانونية وروتينية كالمعروفة في عالم الموسيقي التجارية من تسجيل الكلمات والأغاني في الشهر العقاري أو عضوية هيئات كنقابة الموسيقيين أو الملحنين كلها أشياء ومصطلحات بعيدة عن عالم المهرجانات ولا أحد يهتم به.

لكي يحمي بعضهم نفسه من سرقة أغانيه يقوم بذكر اسمه في الأغنية، في معظم أغاني عمرو حاحا مثلا سوف نسمع البصمة الصوتية بصوت “الروبوت” في بداية كل أغنية “دي.جي. عمرو حاحا”. لكن حتي هذا لا يمنع من إعادة تدوير عمل أي فنان منهم من قبل فنان آخر. لينتج عمل آخر مختلف.

ربما تكون هذه الحالة من المشاع الإبداعي امتداد لتقليد عريق في عالم الأغنية الشعبية حيث كل أغاني الأفراح الفلكلورية التي أعتاد المصريون غناءها في الأفراح والمناسبات الاجتماعية لا نعرف من مؤلفها. لكن هذا لا ينفي وجوده. السادات أو العالمي كما يعرف فنيا ليس مغنياً فقط بل هو مؤلف الكلمات أيضاً.

بعدما اشتهر كراقص في عالم الأفراح والمهرجانات، اعتاد السادات النزول مع علاء فيفتي في بعض الأفراح، خطوة ثم الثانية كان يسمح له بمسك المايك ليبدأ صعود السلم من أوله ويمارس مهنة (النبطشي) مهمة الرد علي المغني الأساسي. وقتها كان يمارس السادات مهمتين كورال للمغني الأساسي، أو موزع للتحيات والسلامات. النبطشي.. هو صدي المهرجان، رجل الظل.

بعدها يكتب السادات أول أغانيه (صحوبية جت بندامه). ستتحول الأغنية إلي حمي وستصبح في فترة بمثابة نشيد أساسي في كل سيارات الميكروباص، التوك توك، الأفراح، والمهرجانات..سيقول السادات:

“لفيت كل البحور

راجع ضعيف مكسور

خلاص يا دنيا انسي حناني

خلاص أنا هبقي واحد تاني

مش هأمن تاني لحد

واشهدوا يا ناس علي كلامي

قلبي الحنين أنا شلته

بقلب ميت بدلته

أنا كنت عايش غرقان

ومدي للناس أمان

وبحب كل الناس

وطلعت أنا الغلطان

والدنيا ياما بتعلم

وجه وقتي وهتكلم..

وهسمعكوا الكلام..”

سيستمر نجاح السادات بعد ذلك ليصبح نجماً من نجوم الأفراح والمهرجانات الذين يكثر طلبهم، سيخرج من عالم المهرجانات ليؤدي أول حفلة له علي مسرح الجنينة تحت رعاية مؤسسة المورد الثقافي، سيسافر أيضاً إلي لندن ليقدم أول حفلاته في أوروبا ليحمل بعد ذلك لقب العالمي. لكن مع ذلك ستظل جلسة عم فتحي مع الأصحاب وعلي رأسهم فيفتي وحاحا هي مكانه المفضل.

سيستمر السادات أيضاً في رفض لقب مغني حينما ينادي به، يقاطعني طوال حديثنا موضحاً: “أنا مش مغني. أنا مؤدي. قدرتي الحقيقية هي “رص” الكلام. لدي رسالة وأرغب في إيصالها للجمهور. حنجرتي ليست قوية ولم أدرس أو أتعلم الغناء”

فرحة الصحاب

للشيخ أحمد برين والعجوز عمل مشترك أشبه بأوبريت كامل بعنوان “فرش وغطا”. الاثنان من أساطير المديح والغناء الجنوبي. عالم آخر منفصل عن عالم المهرجانات له قواعده وآدابه وقيمه. لكن الموضوع الأساسي “لفرش وغطا” هو الصداقة والسفر والرفيق قبل الطريق. نفس الموضوع يتكرر في أغاني المهرجانات.

في أغاني المهرجانات تتكرر عبارات “فرحة الصحاب” أو “هنرقص الصحاب”. يتوجه مغني المهرجان في كل أغانيه لجمهور محدد يرمز له بالصحاب. يوجه التحيات في منتصف الأغنية إلي الصحاب والجدعان.

هل هناك رابط بين الاثنين؟ أم أن المنبع الثقافي البعيد للاثنين واحد؟

“الصحوبية” والصداقة في عالم المهرجانات ليست فقط موضوعاً للغناء بل هي الرابط الأساسي بين كل العاملين في المجال. قيم الصداقة في عالم المهرجانات تعمل بمثابة دستور أخلاقي غير مكتوب لكن متعارف عليه وهي التي تجمع صناع أغنية المهرجان (موزع- كاتب كلمات- مغن- نبطشي- مهندس صوت) ببعضهم البعض.

الصحوبية أيضاً تربط المجموعة بالأماكن الجغرافية التي ينتمون إليها وتعزز من الأحاسيس الجماعية بينهم وبين المنطقة حيث يحتل الغناء عن المناطق المرتبة الأولي ضمن كل المواضيع التي نسمعها في موسيقي المهرجانات.

لهذا تتكرر في عالم المهرجانات الأسماء الثنائية والثلاثية من النادر أن نجد أغنية واحده تحمل اسم مغني واحد بل في الغالب سنجد التوقيع “أوكا وأورتيجا”، “السادات وفيفتي”، “فيجو وحاحا”.

الأخير هو الاسم الأشهر في عالم المهرجانات وقصة الاثنين تجسد نموذجاً لتأثير الصداقة والصحوبية وتقلباتها علي عالم أغنية المهرجان.

الدكتور

من عين شمس أتي عمرو حاحا من عالم بعيد عن الموسيقي والأفراح والمهرجانات. فحاحا بالأساس كان يعمل كمهندس صيانة لأجهزة الكمبيوتر. في زمن الألفين وستة انتشرت محلات الدقيقة ب 75 قرشاً مقابل الحديث في المحمول، أو تحميل أحدث الرنات مقابل جنيه علي تليفونك المحمول.

يتحدث حاحا عن أول توزيع قام به: “بدأت في تعلم استخدام برامج معالجة الموسيقي والصوتيات، وكنت أقوم بتوزيع بعض المقطوعات كنغمات لرنات الموابيل. وزعت مَقطُوعة ذات إيقاع شرقي لكن باستخدام الموسيقي المميزة لبرنامج وندوز ووجدت انتشاراً كبيراً، بعدها بدأ بعض المغنين يأتون إليّ بالكلمات ويطلبون توزيعها وتلحينها”.

x-3513
الدكتور عمرو حاحا – تصوير عمر سيزر 2012

تحول اسم عمرو حاحا في سنوات قليلة إلي علامة تجارية في عالم موسيقي المهرجانات، لا يبارز اسمه سوي موزع مدينة السلام الأشهر “فيجو”.

ساهمت في شهرة الاثنين الحرب الموسيقي التي جرت وقائعها بينهما، ذات مرة تورط حاحا في توزيع قطعة موسيقيه تحتوي علي جمل هجائية لمدينة السلام، فما كان من فيجو ابن السلام إلا أن قدم أغنية أخري تهاجم حاحا وعين شمس. أثارت هذه الحروب الغنائية النعرات المحلية عند سكان المنطقتين السلام وعين شمس مما لفت الأنظار إلي حاحا وفيجو.

انتهت الحرب بصلح بين الاثنين. نتج عنه ألبوم موسيقي من سبع أغنيات شارك في إعداده حاحا وفيجو والسادات وفيفتي ووزه بل وظهرت المجموعة كاملة علي مسرح الجنينة وفي عدد من الأفراح الشعبية بعد ذلك.

بينما يعرف السادات نفسه كمؤد للراب الشعبي. يقدم “الدكتور” نفسه كموزع شرقي ويصر علي وصف الموسيقي التي يقدمها بأنها شرقية. يقول حاحا: “معظم شغلي يتم علي “أرتام” وإيقاعات شرقية. بالتالي فأنا لم أخرج عن تصنيف الموسيقي الشرقية

حكاية ثورة

علي مقهي زهرة السلام أجلس بصحبة السادات وعلاء فيفتي في انتظار “الدكتور عمرو حاحا” القادم من عين شمس. يأتي حاحا نشرب الشاي ثم نقف لنتجه نحو منزل السادات لاستغلال الوقت الذي تغيب فيه عائلته عن المنزل لتسجيل أغنية جديدة. في الطريق بين شوارع مدينة السلام نعبر بركاً متناثرة من المياه والمجاري. في أحد الشوارع الجانبية تنتصب آلة ضخمة وعملاقة تحاول سحب المياه الجوفية التي تهدد جميع المنازل بالانهيار.

بنيت معظم تلك المنازل بعد زلزال 92 علي عجل كلها بنايات متشابهه وكلها تعاني من الانخفاض وارتفاع منسوب الأرض، النتيجة أنه للدخول أو الخروج من البوابة الرئيسية لابد من الانحناء.

في بيت السادات بمساكن مدينة السلام، يجلس عمرو حاحا أمام اللابتوب الذي يخرج منه سلك لسماعة كبيرة وسلك آخر لميكروفون يمسكه السادات وآخر يمسكه علاء فيفتي.

هنا الاستديو -إذا صح هذا التعبير- الذي يتم فيه صناعة معظم التسجيلات حاحا والسادات، ومعظم الأماكن التي يتم فيها صناعة موسيقي المهرجانات لا تفرق كثيراً عن هذا المكان. بالنسبة لشباب المهرجانات الموسيقي لا تحتاج إلا “الدماغ- الكلمات- الكمبيوتر- والموزع الموسيقي”. بعد ذلك يتم رفع الأغنية علي الإنترنت ومنه إلي الشبكات الاجتماعية. أقل أغنية من أغاني المهرجانات معدلات تحميلها علي انترنت تبدأ من 50 ألف مرة، وبعضها يكسر حاجز المليون.

حينما سافر السادات للغناء في لندن شعر بالضيق لتقديمه بصفته ممثلا لموسيقي مصر ما بعد الثورة، يقول موضحاً: “قلت لهم هناك، المزيكا التي نصنعها ليس لها أي علاقة بالثورة ولم نكن ننتظر تنحي مبارك لنقدم ما نفعله. نحن موجودون من أيام مبارك وسنظل موجودين بعده”.

بعد الثورة ظهرت الكثير من أغاني المهرجانات التي تحمل تلميحات سياسية أشهرها “يا حسني سيبني حرام عليك” و “A7A الشبشب ضاع”. لم تحمل تلك الأغاني توقيع أي من الأسماء المعروفة في عالم المهرجانات لكنها لسبب ما التصقت بالسادات، الذي فضل علي مدار عام كامل الابتعاد عن كل ما له علاقة بالثورة. إلا مؤخراً حينما قدم مع فيفتي وحاحا أغنية “حكاية ثورة”:

“نفسه يعيش عيشه هنيه

ظلموه قدام العالم وقالوا عليهم بلطجية

دايما بيجو ع الغلبان لو يسرق حق الرغيف

واللي بيسرق بالملايين بيقولوا عليه في زمنا شريف

النار في قلوبنا بتزيد.. بعد ما ضاع حق الشهيد

واللي يصرخ ويقول حقي.. يضربوه زي العبيد

كلام كتير عمال يتقال..

والنظام السابق شغال”

x-3632
فيفتى والسادات في أحد الأفراح الشعبية

 

الحفلة والفرح

ليست أدوات إنتاج الموسيقي هي المختلفة في عالم موسيقي المهرجانات فقط بل الطريقة التي يعمل بها الشباب. في البداية يقوم “الدكتور حاحا” بتوليف الإيقاع الأساسي أو “البيت” ثم يبدأ السادات مع فيفتي في رص الكلام.

يأتي الكلام كما يقول السادات من مصادر متعددة، قد يكون موقف، فكرة تحوم حول رأسه، أفيه سمعه يوماً ما وأعجبه. بعض الأغاني تتم كتابتها كاملة أولاً، أحياناً تأتي الكلمات ارتجالية حينما يشعر السادات بأنه في الحالة الفنية. دعاني “السادات” إلي حضور أحد الأفراح في السيدة زينب أثناء الغناء فجأة ارتجل سلسلة من التحيات لأهل الأدب ولأخبار الأدب.

بعد تسجيل الكلمات يقوم حاحا بإضافة الحلي الموسيقية والمحسنات السمعية علي العمل. في الحفلات والأفراح يقوم السادات وفيفتي بالغناء علي الإيقاع الأساسي، بينما “وزة” علي “مكنة الدي.جي” يقوم بتوليف إيقاعات موسيقية أخري علي حسب حالة الفرح والجمهور.

أما حاحا فحضوره في الأفراح والحفلات يكون للإشراف علي العملية كلها. حاحا بتعبير السادات هو “رمانة الميزان” ودكتور المهرجان. في بعض الحفلات النادرة يقف حاحا بنفسه علي “مكنة الدي.جي” ويقوم بلعب التوليفات الموسيقية من علي جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به الذي يمكن اعتباره بشكل مجازي آلته الموسيقية الخاصة.

رغم أن الأفراح الشعبية هي ما صنعت موسيقي المهرجانات وعالم السادات وحاحا وفيجو. إلا أن السادات يفضل الحفلات أكثر. يقول: “في الفرح أنا محدود علي حسب المنطقة التي أغني فيها، والأولوية ليست للكلام أو ما أغنيه بل لتوجيه التحيات للحاج فلان والمعلم علان. بعض الأفراح أيضاً تكون هادئة، الجمهور يكون جالساً ويرفض الرقص أو الحركة، في هذه الحالة يجب أن أغير مما أغنيه وأقدم أغاني فيها حكاية. فالجمهور الجالس ينجذب أكثر للأغنية التي تحكي حكاية أو موعظة ويشعر بها لأن كل واحد فيهم يتخيل أن ما أحكيه هو حكايته.”

مؤخراً تم دعوة حاحا والسادات والمجموعة لإحياء إحدي الأفراح في قاعة بفندق فخم. رفضت إدارة الفندق في البداية دخولهم أو تشغيل موسيقي المهرجانات. المسئول عن القاعة قال لهم: “لا يمكنني أن أسمح لك بالغناء هنا، أنتوا كدا بتنزلوا لي القاعة وبيغني هنا نجوم، لكن أنتم موسيقي بيئة.” في منتصف الشجار مع المسئول أمسك السادات بالمايك، شغل الموسيقي، وانطلق مغنياً ليشعل الفرح:

“تاني تاني.. فيفتي وفيجو من تاني

تاني تاني.. فيجو وحاحا من تاني

اسمحي لي يا زماني..

هغني تاني تاني.. علشان دلوقتي جه أواني”

غني السادات في الفرح. ولم يستطع مدير القاعة أن يفعل شيئاً أمام حماس الجمهور في القاعة.

اسأله:

-لكن في الحفلات بعض المسارح والأماكن تضع شروطاً علي نوعية الكلمات التي يسمحون بها؟

يجيب السادات ببساطة: “صح أحياناً يحدث ذلك معانا لكن حينما نصعد علي المسرح نقول كل ما نريده، ولا يهمنا.” بثقة يضيف “نحن لا نغني أو نقول كلاماً من عالم آخر. ما نقوله هو حياتنا وما يدور في الشارع. ولا أحد يستطيع أن يمنعنا من أن نقول ما نريده. ولهذا السبب حتي الآن نرفض التوقيع مع أي شركة من شركات الإنتاج الكبيرة. لأني إذا وقعت سيكون للمنتج الصلاحية أن يتدخل أو يعدل فيما نريد تقديمه بينما علي الانترنت والمسرح نحن أحرار”.

قيم

جزء من أجواء بعض المهرجانات والأفراح الشعبية هو أنها المتنفس الترفيهي الوحيد لمئات الشباب بعيدين عن عوالم كافيهات تقدم القهوة “الاسبريسو” مع كعك الشيكولاتا، أو أندية ليالية تكلفة دخولها تتجاوز المائة جنيه. في الأفراح تحضر الموسيقي والرقص وأحيانا البيرة وأحيانا أخري الحشيش كجزء من فعاليات الحدث.

x-3661
السادات – تصوير عمر سيزر

ألفاظ وقاموس الشقاوة جزء من كلمات أغاني المهرجان. بعض الألفاظ التي ترد في كلمات أغاني المهرجان تصنف كألفاظ خارجة لدي طبقات وشرائح اجتماعية أخري. بالرغم من أنها تغني ويسمعها الجمهور بأريحية ويندمج معها في شوارع السيد زينب وأفراح القري في الفيوموالشرقية.

بمرور السنوات يصبح لدي السادات وفيفتي حساسية لدي بعض الكلمات يقول فيفتي: “في الأول كنا صغيرين وكنا أحياناً بنقول كلام فيه تسخين، لكن مع الوقت بقينا نركز في الكلام لأنه مش “رص” وخلاص. مقدرش أعمل زي ناس تانية وأغني كلام لا أرضي أن تسمعه أختي أو أمي.”

يضيف السادات: “الكلام لازم يبقي له معني. وفي حاجات لا يصح أن أقولها. لا يصح مثلا بعد حادثة مثل بورسعيد أعمل أغنية أهاجم فيها بورسعيد علشان أكسب جمهور ألتراس الأهلي مثلاً”.

أثناء سيرنا في شوارع مدينة السلام يحادثني السادات: “المنطقة هنا بعد الثورة بقت لبش، كل واحد معاه 300 أو 400 جنيه تلاقي ماشي “بفرد/مسدس” وعامل بلطجي. لكن احنا شباب محترمين والله.. اسأل علينا أي حد”. يدلل علي كلامه قائلاً: “يعني احنا مثلاً مش ممكن تلاقينا واقفين نشرب سيجارة في الشارع أو قصاد بيت حد، رغم أن أصحاب البيت ممكن يكونوا مش ممانعين بل أحياناً ممكن يكون مبسوطين”.

أضواء الشهرة

يسحب فيفيتي نفساً من السيجارة وبشكل سينمائي يقول: “أسمع الخلاصة، احنا المستقبل. الجيل الجديد دا كله مضروب بحاجتين؛ يا المخدرات يا مزيكا المهرجانات. أنا أعرف شباب جديد يلم أصحابه ويحبسوا نفسهم في الأودة بالثلاثة أيام علشان يطلع أغنية يقول فيها اللي جواه”.

x-3665
علاء فيفتى – تصوير: عمر سيزر 2012

ذات مرة أتي شاب ودق علي باب منزل السادات فتح له فوجد الشاب الذي لا يعرفه يهديه بوستر كبيراً قام بتصميمه وطباعته للسادات وانصرف. في الأفراح الشعبية في السيدة زينب أو المطرية أو الزقازيق. خلف منصة الفرح يقف عشرات الشباب أعمارهم تبدأ من عشر سنوات وحتي السادسة عشر. في عيونهم تري الانبهار. بعضهم يمتلك الجرأة ويقترب من “وزة” علي المكنة يحاول أن يفهم كيف تخرج كل طاقة البهجة تلك من “المكسر” ومكنة “الدي.جي”.

حاحا، فيجو، أوكا، السادات ومؤخراً شياطين الدخيلة بالإسكندرية. أسماء تشكل الموجة الأولي لموسيقي وإيقاع روح جديدة يزداد جمهورها يوماً بعد يوم..

البهجة وموسيقي المهرجان.. مستمرة.

هذا هو أحدث وجه من وجوه الأغنية الشعبية، إنها “المهرجانات ” والمهرجان هو الاسم الذي يطلق إجمالا علي الأغنية في هذا النوع الموسيقي مثل مهرجان الوساده الخاليه (هاتي بوسه يابت) ومهرجان سمكه علي بلطيه وكذلك الصحوبيه واسعه الانتشار هذه الأيام.

إذا أردت أن تعتمد التسلسل الزمني سبيلا، يمكنك أن تعتبر أن مغنيي المهرجانات هؤلاء هم الجيل الرابع من المغنيين الشعبين علي خلفيه أن المؤسس عدوية هو الجيل الأول وإذا كان لك أن تعتمد طريق التطور، فلك أن تتأكد أن هذا النوع من الأغنية الشعبية ما هو إلا اللحظة الراهنة في رحلة طويلة من محاولات التحرر من الآلات الموسيقية و من شركات الإنتاج و من الكلمات المؤلفة و من الأصوات المميزة و من كل شيء إلا الحالة.

 

x-3767
في فرح شعبي عام 2012 – تصوير عمرو سيزر
%d bloggers like this: