إبراهيم عبد المجيد يكتب: كيف غاب هذا الكاتب عن النقاد وتاريخ الرواية المصرية؟

ليس من عملي البحث والاستقصاء في تاريخ الأدب . لكن هذا لا يمنع من الدهشة حين ألتقي بنص لم أعرفه من قبل أو أسمع به . هذه المرة كانت الدهشة كبيرة جدا لأن ما وصلني هو نص غاب اسم صاحبه تماما ، وغابت أعماله عن النقد الأدبي في مصر أو العالم العربي ، وما يهمني هو مصر .

الكاتب يحمل اسما شهيرا جدا هو اسم “سعد الخادم” . وهو إسم يحيل أي شخص علي الفور إلي أستاذ التراث الشعبي الشهير والفنان التشكيلي العظيم سعد الخادم ، صاحب الأيادي البيضاء الكثيرة علي الثقافة الشعبية ودراسات الحرف والصناعات الشعبية ، الذي نشر فيها حوالي تسعة عشر كتابا ، وتولي مناصب كبري في الجامعة والمتاحف الفنية ، وحصل علي جوائز مختلفة ، وشارك في معارض عالمية ، وله متحف باسمه واسم الفنانة عفت ناجي في منطقة الزيتون بالقاهرة يحتوي علي نماذج من تراثهما الفني ، والذي ولد عام 1913 وتوفي عام 1987. ربما كان هذا من أسباب غياب الكاتب الذي سأتحدث عنه والذي يحمل اسما لمشهور كبير في مجال آخر . لكن حتي لو كان كذلك فلماذا لم يتحدث أحد عن رواياته باعتبارها للفنان سعد الخادم فيتحمس من يضيئ الحقيقة ؟

لماذا دخل هذا الكاتب شرنقة التجاهل والنسيان ؟ بدأت المسألة برسالة خاصة علي الفيس بوك من صديقي الجميل الدكتور محمد عيسي الأستاذ السابق للغة والأدب العربي والدراسات الإسلامية في جامعة شيكاغو ونورثوسترن وميشيغان وغيرها ، والذي يعيش الآن في شيكاجو، يسألني هل سبق وعرفت أن للفنان سعد الخادم روايات ؟ طلبت مهلة . سألت أكثر من فنان صديق . الكل احتار . فسألت السؤال علي صفحتي علي الفيس بوك ووجهته للنقاد وباحثي تاريخ الأدب . اثنان قالا لي أن هناك سعد الخادم آخر عاش في كندا خارج مصر . الأول منهما هو الصحفي الكبير عمرو خفاجي والثانية هي الدكتورة منارعمر المترجمة ومدرسة الأدب الألماني بجامعة حلوان ، وأرسلت لي صفحة بالإنجليزية في جريدة الدراسات الإثنية الكندية Canadian Ethnic Studies Journal” للكاتبة: اليزابيث دهب. Dahab Elizabethوهي بالمناسبة صاحبة كتاب “كتّاب عرب كنديون .. أصوات المنفي Arabic Canadian writers, Voices of Exile “. المقال بعنوان: “Poetics of Exile and Dislocation in Saad Elkhadem,s Wings of lead1971 , the Plague 1989 ,and Trilogy of Flying Egypian 1990-1992 ” ” شعرية النفي والخروج في روايات سعد الخادم ” أجنحة من رصاص Wings of lead التي نُشرت عام 1971 والطاعون The Plague التي نُشرت عام 1989 وترجمها سعد الجبلاوي وثلاثية المصري الطائر Trilogy of Flying Egyptian التي نُشرت مابين عامي 1990-1992 ” وترجمها سعد الجبلاوي أيضا .

لسعد الخادم روايات مثل “رجال وخنازير Men and Pigs ” التي كتبها من قبل عام 1967 وترجمها بنفسه عام 1971، كما ترجم بنفسه رواية أجنحة من رصاص عام 1994 وله أيضا ” ثلاثية يوليسيس the Ulysses trilogy ” التي كتبت ونشرت بين عامي 1985-1987 وهي ثلاث نوفيلات – روايات قصيرة- في كتاب واحد عن رحلات أكاديمي مصري عبر عشرين عاما وترجمه ” سعد الجبلاوي “كذلك استوحي فيها اسم يوليسيس في رواية “أوليس ” لجيمس جويس وطريقته في تداعي الأفكار والأحداث، لكنها طبعا صغيرة جدا قياسا علي “أوليس جيمس جويس ” وهي تقريبا نفس عذاب” ثلاثية المصري الطائر”التي توسعت أكثر . من المقالة عرفت أن سعد الخادم مصري حصل علي الجنسية الكندية بعد رحيله عن مصر . ولد عام 1932 وتوفي في الخارج عام 2003 . وُلد في مصر وحصل علي بكالوريوس في الفنون ثم الدكتوراة من النمسا . كان الملحق الإعلامي لمصر في سويسرا وشغل وظائف حكومية أخري في مصر قبل السفر عام 1968

في عام 1968 أُعير كمدرس مساعد للغة الالمانية في جامعة برونسويك الجديدة Brunswick New في كندا وكذلك لتدريس الأدب المقارن . هناك أمضي بقية حياته بعد أن صار استاذا . من هنا عرفته الدكتور منار عمر المترجمة ومدرسة الأدب الألماني . لقد أنتج أكثر من ثلاث وعشرين كتابا بينها أربعة عشر رواية مُنع الكثير منها في مصر، ربما كلها فلم أسمع بأي منها . ولقد كان أيضا نشيطا في نشر أعماله وغيره ، ووسيطا مثل بعض المصريين الكنديين الذين توفروا علي نشر أعمالهم وغيرهم في دور النشر .

أما سعد الجبلاوي فهو أيضا مصري عمل أستاذا في كندا للأدب واللغات، ولد عام 1927 وتوفي عام 2002 في تورنتو بكندا . سعد الجبلاوي المترجم حصل علي ليسانس الأداب من جامعة القاهرة قسم اللغة الانجليزية ، ثم علي الدكتوراة من جامعة ليفربول، وهاجر الي كنداعام 1968 وقام بترجمات كثيرة من الإدب العربي، منها قصص قصيرة لنجيب محفوظ إلي الإنجليزية والعكس . كان عام 1968 عام خروج كثير من الشباب الجامعي بعد هزيمة عام 1967 إلي أميركا وكندا واستراليا ولقد رأيت ذلك بنفسي وكان بينهم بعض أصحابي . ليتني فعلت مثلهم !

اسم سعد كان متداولا في مصر بقوة للمواليد بعد ثورة 1919 وأوضحت لي الدكتورة منار أن سعد الخادم مسلم بينما سعد الجبلاوي مسيحي . قلت في نفسي هكذا اتحد الهلال مع الصليب . ما أجمله من زمن .

————–

وصلتني رواية واحدة بالعربية من الصديق الدكتور محمد عيسي . هي نوفيلا “الطاعون” . ومقدمة الترجمة الإنجليزية التي كتبها سعد الجبلاوي مترجم الرواية . والنصان منشوران معا في كتاب واحد أصدرته مطبعة يورك York Pressفي كندا، في سلسلة كتابات ودراسات في الأدب العربي ، وفي الكتاب صفحة بها بعض اصداراتها . هي السلسلة التي نشرت بالإنجليزية أعمالا مثل “قصص قصيرة مصرية حديثة Modern Egyptian short stories” و” ثلاث روايات مصرية معاصرة three Contemporary Egyptian Novels “تاريخ الرواية المصرية .. صعودها وبداياتها History of the Egyptian Novel –its Rise and the beginnings ” وكتاب عن الأمثال والأقوال الشعبية المصرية Egyptian Proverbs and Popular sayingsجمعها وترجمها سعد الخادم ، وروايات سعد الخادم كلها تقريبا . ترجم سعد الجبلاويي نوفيلا “الطاعون” وكتب لها مقدمة تحليلية وفنية عميقة . لكني أحببت أن اقرا النص الأصلي بالعربية للرواية واكتفيت بالمقدمة الإنجليزية .

وجدت أني أتوافق مع سعد الجبلاوي في علامات واضحة في النوفيلا وهي أنها عبارة عن مونولوجات وسرد من الخارج متداخلان لعشر شخصيات ، سبعة رجال وثلاث نساء ،في مكتب للهجرة وللحصول علي الفيزا في عصر جمال عبد الناصر . أسهل شيئ أن تصل إلي ما وصل إليه المترجم من أن المقصود بالطاعون هو عصر عبد الناصر نفسه، الذي أراد فيه كل من يملك عقلا ويفكر في الرأي والمعارضة أن يطير عابرا البلاد .

يقول المترجم أن ذلك يذكره بالديكاميرون لبوكاشيو حيث هروب عشرة أشخاص ، سبعة رجال وثلاث نساء أيضا ،من الطاعون في القرن الرابع عشرفي فلورنسا ، وهكذا في مصر بعد عام 1952 ومافعلته ماسميت بثورة يوليو. لقد حولت مصر إلي معسكر اعتقال كبير . أمة تحت الأسوار . كارانتينا للعزل . وبيوت للقبض علي الناس فيها . ألخ . وجدت فعلا في حديث الشخصيات العشرة في النوفيلا ما يدل علي ذلك ، فرغبتهم في الهروب مذهلة . هم ينجحون في الحصول علي الفيزا للخروج لكن تظل لحظات الانتظار في يوم واحد في مكان واحد هي الرعب كله . نعرف حكاية كل منهم من رجال ونساء ، وأحدهم قاتل سفاح كان ضابطا يقوم بتعذيب المعتقلين وتم الاستغناء عنه ويريد الخروج حتي لا يحدث له ما فعله . هو يأتي في نهاية النوفيلا ليختمها فنيا بشكل جيد كأنه التفسير الذي يصدِّق علي كل ما قاله الآخرون أو قاله المؤلف عنهم .

الأول يتحدث قائلا ” اسمي محمد اسماعيل” ولا ينتظر المؤلف فيدخل بالسرد المباشر ليتحدث عنه . فتي في الخامسة والعشرين يستمر في وصفه ومن مواليد القاهرة وعلي الفور مونولوج لمحمد اسماعيل بلغة غير متوقعة ” هو أنت شايف أني من مواليد الأناضول يابن الأحبة ياغبي ” كأنه يرد علي المؤلف . ويستمر محمد اسماعيل في الحديث عن أهله وعن نفسه فتعرف أن أباه كان كبير مهندسي شركة الكيماويات بحلوان ، وهي في الأصل كانت مصنعا يملكه يوناني ، تم تأميمه وتغيير اسمه إلي مؤسسة النصر للأدوية والعقاقير الطبية وافلست . المهم الحديث يستمر عن الفساد وعن السرقة والنساء والجرسونيرات – الشقق الخاصة – بالمسؤولين لمعاشرة النساء ، ويتناثر الحوار علي ألسنة الآخرين فهو له أخ مستشار في قنصلية بسان فرانسيسكو . هو يقول ذلك وهم يقولون “أبعد عنه ابن الأحبة دا مادام ليه حد في الحكومة يبقي مخبر علينا” كل ذلك أحاديث غير منطوقة يرسلها المؤلف كأنها حقيقة.

محمد اسماعيل يريد الخروج أصلا خوفا من الموت في الجيش بعد التخرج في حروب عبد الناصر التي انتهت بالهزائم ، ونعرف طبعا من المؤلف أن أخاه أمين محفوظات في القنصلية وليس مستشارا . المهم يمشي الحديث في ثلاث طرق متداخلة . ضمير المتكلم . الغائب في مونولجات سريعة أو حوارات مكتومة للآخرين ثم المؤلف ، وتفاجئنا عبارات من نوع “ابن الأحبة ” ” أو “انتم عايزين مننا إيه يا اولاد الشرموطة” وكثير جدا مما يمكن أن تتصور من شتائم بالجنس تعرفها العامية المصرية.

نعرف كيف استقر أخوه في أميركا بعد أن تزوج من امرأة عجوز هناك ، لكن لا يزال بها مسحة من جمال وكيف يعيش معها في مزرعتها، ويبدأ الحديث عن المرتبات في مصر وأميركا ،وكيف أن من يذهب لا يعود ، ففي مصر خريج الجامعة راتبه – ذلك الوقت – خمسة عشر جنيها وفي أميركا “العربيات المستعملة بتتباع في شوادر زي شوادر البطيخ هنا، شاطرين بس يقولوا الأمريكان ياريس ، دول حبة كلاب ياريس، والله مافيه كلاب مسعورة غيركم يا ولاد الأحبة اللي ماسبتوش حد إلا ما عضتوه أو شخيته عليه ” هذا نموذج واحد ولن أزيد .

ثم يتابع محمد اسماعيل في أميركا وما جري له ، فالتجنيد إجباري هناك وقتها ، وتنفجر فيه قنبلة في أحد التدريبات ، ويعيش مشوها لكن مكرما من الدولة الأمريكية مع أخيه وزوجته بالمزرعة ،ويعود الكاتب العجيب إلي المكان والواقفين وكل الأحاديث بينهم تتم في نفوسهم فهو مثلهم يتصورهم جواسيس ، وعلي حد قوله حكم قراقوش خلي الناس خايفة من بعضها .

الثاني مجدي نعيم في الثانية والثلاثين من عمره ومدرس لغة فرنسية . يعني “عضمة زرقا” ، وهذا مايقال عن المسيحيين . وينتقل بنا علي طريقته المتداخلة في السرد في الحال بين المسيحيين والمسلمين وان كان مكتوما، وعن هجرة المسيحيين الكثيرة هربا من الفقروالقهر والعنصرية، وكيف تُرفض فيزاتهم كثيرا ، وسعيد الحظ هو من يجد طريقه إلي كندا أو أميركا أو استراليا . مجدي نعيم أصابه فرح كبير بعد أن أخطرته وزارة الداخلية بالموافقة علي السفر ، المهم أن يذهب يتقدم للحصول علي الفيزا . باع أثاث بيته وحجز طائرة في نفس اليوم ، ويقول لهم أنه ذاهب للعمل استاذا مساعدا للغات في كندا ويقولون في نفوسهم هم “تلاقيه نصاب ماحيلتوش غير دبلوم معلمين وحيدرِّس فرنساوي في مدرسة ابتدائي بالكتير” .

ويتابع مجدي نعيم فنعرف كيف كان مدرسا بالصعيد وضاقت به البلاد بسبب أنه عضمة زرقا ويتحدث في مونولوج غاضب حديثا معبرا “أنا مش عضمة زرقا، انتم اللي نزلتم علي خير وادي النيل زي الجراد أكلتم خيراته ، وغيرتم عاداته ، وقضيتوا علي أمجاده . دول نسوان الفراعنة كانوا بيشربوا بيرة ويلعبوا تنس ويحطوا أكلادور في إيديهم ويتجوزوا عن حب، جيتوا انتم حبستوهم في البيوت وخوفتوهم من الرجالة وعملتوهم عبيد تخدم عليكم أو بقر يولد لكم ، والأكتر كمان إنكم عاملتم أهل البلد الأصليين أنهم خونة وجواسيس وعملا ، طيب آديني سايبها لكم اعملوا فيها اللي انتم عايزين تعملوه ، قسموها بينكم ، بيعوها لروسيا، اعملوها جمهورية عربية اسلامية أو حتي أجروها مفروش للسعوديين، ماهو كله مكسب، وكله داخل جيوبكم مادام بتقولوا الدين الرسمي للدولة هو الاسلام ”

طبعا يقصد دخول العرب إلي مصر ، ويستمر معترضا أن يكون الدين مرجعا للحياة الواقعية وهو أفكار روحية .ألخ ، ويدين الأزهر واحد المشايخ الذين عرفهم مجدي نعيم – الكاتب نشر النوفيلا عام 1989 ورأي ماجري في عصر السادات والحديث هنا في عصر عبد الناصر لا يعد استشرافا بما حدث لكن تأكيد عليه – ويحكي عن التجسس علي الأجانب في الفنادق قصصا غريبة.

ويتابعه في رحلته حيث لم يكن مسموحا بالخروج إلا بخمسة جنيهات وهو ما يساوي عشر دولارات فيشتري مجدي نعيم مائة دولار ويبرمها ويضعها داخل قلمه بعد أن نزع منه خزان الحبر . يتابعه في مطار مونتريال حيث يُصاب مجدي بالصدمة حين يكتشفون أن المائة دولار مزيفة ،ويتم حجزه للتحقيق فيما لو كان يعمل مع عصابة لتهريب الأموال المزيفة ، لكنهم يتأكدون من براءته، ويخرج لكن لا يوفّق في الحياة الزوجية مع يولين الكندية التي تعرف عليها في القاهرة ، ويعود من جديد بعد أقل من عام ليمضي حياته ذليلا يتنقل بين البلاد في مصر وحيدا بلا زوجة أو ولد حتي يلقي ربه حين يترقي ناظرا لمدرسة بني سويف النموذجية للبنين !.

نظل نتنقل بين الشخصيات التي لن أقف عندها كلها ، وبنفس طريقة السرد ثلاثية الأضلاع اذا جاز التعبير وبنفس تداعي اللاشعور. سأقف فقط عن امرأة مهاجرة وعن رجل الأمن الأخير .

%d bloggers like this: