الشك باليقين -5- سلسلة هزلية غير مكتملة

في صباح اليوم التالي، أخذونى مع ثلاثة آخرين في عربة ترحيلات جدرانها من الحديد الصفيح لا تحتوى إلا على أربع نوافذ صغيرة مغطاة بشباك معدنى، كان الجو حاراً داخل هذا الفرن المتنقل والعرق ينز من كل مسام جلدى. لا أعرف كم استغرقت الرحلة حتى وصلنا لمدينة السجن المقسمة لمجمعات سجون مُختلفة. توقفت العربة ونزل منها الثلاثة المصاحبين لى بينما بقيت وحيداً وألم خفيف يحرق أحشائي ومثانتى.

بعد نصف ساعة من التوقف تحركت العربة مرة أخري وتزايد ألم مثانتى وامتلائها. أرضية العربة كانت مغطاة بالزبالة والطين وأكياس البلاستيك وزجاجات المشروبات الغذائية الفارغة. تناولت واحدة، فتحت غطائها، انزلت البنطلون الذي أرتديه ووجهت حشفة قضيبي نحو فتحة الزجاجة، فخرجت مياة البول صفراء دافئة. ارتخت أعصابي وجسدى في راحة عظيمة وشعرت بغلالة سوداء تزاح من على عقلي وكان أول ما فكرت فيه أن حقيبتى سوف تخضع للتفتيش لدى دخولى السجن. ولم أكن لأتحمل المغامرة بفقدان أو مصادرة أوراقي. فتحت الحقيبة/الشنطة وأخرجت الأوراق منها، كذلك كريم الشعر مستعيداً ومتذكراً كل نصائح كسح.

توقفت العربة مرة آخري. هذ المرة حينما فُتح الباب لم يكن هناك غيري في العربة سحبنى الميمون وأدخلنى من بوابة السجن حقيبتى في يدى وفي اليد الآخري القيود الحديدية التى يسحبنى منها. أغلق باب السجن خلفنا ما أن عبرنا لم أعرف الضابط من العسكري من الميمون منهم. كان هناك اثنان من المساجين أوقفونى بجوارهم. صاح أحد الحراس فينا “اقلع أنت وهو كل هدومك” بينما الآخر يفتش حقائبنا.

على اليمين تراصت مجموعة من المكاتب الإدارية وعلى يساري غرفة كتب على بابها غرفة الزيارة. والساحة الصغيرة التى نقف فيها بين كتلتى المبانى تنتهى بباب حديدى آخر. وخلفنا باب السجن الرئيسي الذي دخلنا منه. الشمس تغرق السجن بأشعتها التى تحرق أجسادنا العارية إلا من كلوتات تكسو عورتنا بينما عيون الحرس تفحص الظاهر منا. مد الحارس ذو العيون الملونة والأصابع الخشنة -سأعرف بعد ذلك أن اسمه مدنى- يده اليمنى نحو أحد المساجين ممسكاً بكتفه فاحصاً الوشم الأخضر على كتفه ثم سأله بصوت أجش “أنت دخلت سجن أيه قبل كدا؟” أجاب المسجون بصوت خافت لم نسمعه فدفعه مدنى نحو زاوية يفترض أن تكون حمام بلا باب مشيراً لزجاجة بلاستيكة بجوار مدخل الحمام تفور منها رغاوى الصابون “طيب خش ارفع المياة والصابون وشخ ورجع”. حبست أنفاسي متخوفاً من التجربة المهينة متذكراً ما حكاه كسح وكيف يجبرون المساجين على شرب المياة بالصابون وأكل الحلاوة الطحينة واحتجازهم حتى يتبولوا ويتقيئوا ليتأكدوا من فراغ أمعائهم.

لكن انقذنى صوت “مدنى” من قلقي وهو يسلمنى بنطلون وقميص بلا أزرار أزرق اللون ومن قماش خشن. “وأنتم البسوا دا، أى هدوم ألوان معاكم ستحفظ في الأمانات، ولأول وآخر مرة بقول لكم، أى حد معاه موبيل، شريحة تليفون، أداة حادة، أى أدوية، مخدرات، أو حاجة كدا أو كدا يطلعها دلوقتى عشان بعد كدا لو حاجة ظهرت النتتيجة مش هتكون كويسه”. من حقيبتى أخرج عسكري التفتيش كتاب إيزيس، ناوله لمدنى الذي قلب الكتاب كجثة أرنب مسلوخ، ثم نظر باتجاهى وخاطبنى “الكتب ستراجع في المباحث وإذا سمحوا بها سوف تعاد لك، إذا لم يسمحوا سنضعها في الأمانات لتستلمها عند خروج أو أهلك إذا جاءوا لزيارتك”.

 

11.4.jpg
صورة من داخل احد ممرات سجن طرة

 

قادنا مدنى نحو الباب الحديدى في نهاية الساحة ونحن نحمل حقائبنا التى أصبحت أخف بعدما صادروا منها ما اعجبهم. عبرنا الباب إلى ساحة واسعة تتوسطها حديقة مهملة ومبنى من طابقين مطلي بالأرزق. دخلنا المبنى وصعدنا السلالم نحو الدور الثانى. كان هناك صدى خافت لأغنية قديمة لأم كلثوم تنبع من أحد الزنازين ويتردد في ارجاء السجن. توقفنا أمام باب حديد علقت بجواره لافتة مكتوب عليها 2/4. فتح حارس آخر يرتدى ملابس صفراء الباب مستعينا بمفتاح حديد ضخم. قادنى مدنى إلى الداخل، كانت غرفة/عنبر مطلية بالأصفر تقريباً تبلغ مساحتها 6 أمتار عرض في 20 متر طول على الجانبيين بنيت من الخرسانة مراقد النوم من مستويين. أشار الحارس ذو الزى الرسمى الأصفر لمرقد علوى وقال “أنت هنا يا كامل” وضعت حقيبتى بينما وقف جيرانى في المرقدين السفليين وابتسامة ترحيب على وجههما. خرج الحارس وأغلق الباب وبدأت حواسي في استيعاب اضاءة المكان ورائحته المكتومة. أجلسنى حمادة الذي ينام أسفل منى بجواره وعزم مختار الذي ينام مقابلاً له بكوب شاى علي.

كان هناك الكثير من عبارات الترحيب والابتسامات التى كنت أرد عليها بابتسامة حظرة وشعرت أن خجلى القديم يعود لى والدم يندفع خجلاً إلى وجنتى، تطوع أحدهم بتهيئة فراشي حيث علق حقيبتى في مسمار أعلى المرقد الذي فرد عليه بطانتين بعدما طبقهم ليصبحوا كأنهم مرتبة. اقترح حمادة عليّ الاستحمام ولم أكن قد استحممت منذ يوم المحاكمة. أخرجت غيار داخلى ومنشفة واتجهت لنهاية العنبر حيث خمس حمامات على اليسار وعلى اليمين سخان كهربائي لطهو الطعام بجوارة ثلاث أحواض لغسل الوجه، دخلت الحمام الأول وأغلقت الستارة البلاستيكة القذرة خلفي.

دشٌ معدنى في الأعلى. وفي الأسفل مبولة بلدى تطفو داخل عينها قطعة خراء بنية الون. خلعت ملابسي ثم قرفصت جالساً في وضع التبول لكن بعيداً عن حفرة الخراء. أغمضت عينى في تركيز وكتمت أنفاسي لثوانى لأركز قوتى في عضلاتى التى تحزق، شعرت بأثر الضغط في أمعائي لكن بلا نتيجة. أخذت نفس أخر وكررت الأمر ثانية بلطف أولاً ثم أقوى قليلاً وقد شعرت بعضلات دبري تستجيب هذه المرة. نظرت لأسفل ما بين فخذى لم يخرج شئ بعد. حزقت أكثر فظهر طرف الكيس البلاستيكى خارجاً من صرم طيزى. كان الألم موجعاً في أمعائى لكن مع كل حزقه وكل دفع كنت أشعر بالراحة كأن الألم يولد منها منفصلا بوجعه. مددت يدى بين ردفي، وأمسكت بأصابعى أطراف الكيس، وبالتزامن مع الحزق أخدت اسحب الكيس خارج صرم طيزى وبفضل كريم الشعر الذي دهنته كانت الولادة/ الاخراج انسايبية، حتى خرج الكيس كاملاً وبداخله الأوراق مطوية على شكل أسطوانة وقد علقت بعض قطع الخراء بالكيس الذي يغلفها. فتحت المياة، وتحت القطرات المنسابة من الدش غسلت الكيس مزيلاً آثار الخراء وكريم الشعر قدر المستطاع. فردت الكيس فاستويت الأوراق التى يحتويها.

منذ سنوات بعيدة وفي يوم واحد عرفت أن حب حياتى وزوجتى قد ماتت أثناء قيامها بعملية إجهاض على يد ذات الطبيب الذي كانت تخوننى معه وحملت منه دون أن أعرف. في ذات اليوم ماتت أمى أمام عينى بالسكتة القلبية بعدما انفجرت فيها معنفاً ومهيناً كل ما بذلته من أجلى. قتلت أمى الحبيبة ذات القلب الضعيف بكلماتى الخارجة القاسية لكنهم قالوا أن وفاتها طبيعية وقضاء قدر، وكان عقابي الوحدة واليتم والألم حينها اكتشفت الكتابة لأول مرة، لكن ظهرت عطيات والكأس والبار وانتزعونى من الأوراق. وتطلب الأمر سنوات لأنسي ثم لأتذكر حتى أعود للكتابة، واكتب قصتى في شكل رواية، وبسببها تم التنكيل بي ودُفعت للمحاكم ومعدة العدالة الامبراطورية لهضمى وإعادة تشكيلي وتوجيهى. وها أنا مرة أخري وقد فقدت كل شئ، عطيات والبار، وحريتى لكنى ما خشرت السبيل، لدى الكتابة وأوراق وثلثي روايتى الثانية التى أعمل عليها، وعلى الورقة الأمامية اسمى. أنا كامل رؤوبة لاظ وهذه ليست حكايتى فقد حكيت قصتى سابقاً.

 

 

 

 

 

 

الشك باليقين -4- سلسلة هزلية غير مكتملة

تعالت أصوات الضجيج من الزنزانة المجاورة؛ آهات مكتومة وآخري مطلقة، وثالثة تحولت لصريخ، سباب، زئير، توسلات، صليل معدنى، صرخات ذكورية ثم صوت ضابط يسب الدين للجميع. حوار غير مفهوم التفاصيل بينه وبين أحدهم لكن على عكس المتوقع يبدو كأنما الضابط هو من يسعى لاحتوائه. ينفتح باب زنزانتنا ويقذفوا بشاب يحمل وجهه وسامة بعيدة. كفه الأيسر مربوط بشاش أبيض ملوث بالدماء وشورت وشبشب فلينى بصباع، أوساخ سوداء متراكمة تحت أظاهر القدمين الطويلة. ذقن نابته. وكف أيمن لوح بالسلام ثم ارتمى جالساً بجوار العجوزين.

عزم عليه العجوز المدخن بسيجارة وبدا كأنه يعرفه حيث خاطبه باسمه وكما سمعته كان “كسح”. انطلق في وصلة من السباب واللعن عن خناقة مع نزيل في الغرفة المجاورة، بينما العجوز الآخر غير منتبهاً لحديثه ومندمج أكثر في قرض أظافر يده بأسنانه. أخرجت سندوتشات عطية وتقاسمتها معهم كمحاولة لكسر الحاجز الجليدى وتوثيق المعرفة بالعيش والملح، سألنى أحدهم عن سبب وجودى هنا فحكيت باختصار بدو متأثرين. حسدنى كسح على النعمة حيث لن تطول إقامتى هنا حتى ينقلونى على السجن، أما هو فله هنا شهر ونصف في “قسم ابن وسخة، ومساجين أوطى من الموس على الأرض”. ثم مشيراً لحقيبة طعامى وملابسي نصحنى أهم وأول نصيحة لأيامى القادمة. “أنت جاى هنا، مش عارف هتخرج امتى، وكلمة لك يا زميل احسبها بالورقة والقلم، متعرفش ظروف اللى برا وإذا جت لك زيارة النهارده، متعرفش امتى ممكن تيجى لك حاجة ثاني.”

نصيحة رمتنى في حيرة التفكير في المستقبل في مجدى بيه وصاحب البار وعطيات التى وإن كان مد حنانها بحر فالجذر يضربه سريعاً. كما عرفتها ما أن تجد الباب مغلق أو الطريق شاقاً حتى تيأس وتلجأ لصرف الهم والغم عن نفسها بتسريحة شعر جديدة ونزهة في سيارى سريعة وقد تتذكر قصة حزينة –في هذه الحالة ستكون أنا- بشجن وثلج مشروبها يذوب وقدمها تهتز مع إيقاع أغنية قديمة.

ما الذي انتظره؟ وهل في الحياة غير ذلك؟

لم أعد ذلك الساذج الذي يثق بالإخلاص الزوجي مثلما خدعت لأول مرة منذ سنين، بالتالي لا يجب أن أعول الكثير على عشيقة وشيطانة كعطيات.

قام كسح متجهاً لزاوية الحمام. انزل الشورت الذي يرتديه، ثم قرفص عارياً وأخذ يحزق بلا مباله، حركت رأسي بعيداً لكنى انتبهت للعجوزان يراقبان بشغف حزق “كسح” ويده اللتى امتدت لمؤخرته تسحب طرف كيس بلاستيكى أسود خرج من صرمه. سحب الكيس كساحر يخرج منديل من قبعة خاوية. اتجه لصنبور الماء وغسل الكيس من قطع الخراء البنية التى علقت به ثم فتحه مخرجاً كيس آخر يحتوى على حبوب حمراء، وقبل أن يخرج حبة حمراء من الكيس انتبه لعيون العجائز التى كانت تدمع جشعاً وشهوة لا دموع، فأخرج حبة واحدة رماها باتجاههم “كل واحد نص”. ثم مد كفه الذي كان في صرمه نحوى قائلاً “تضرب يا زميل”. اعتذرت له بأنى ليس لى في أى نوع من المخدرات، وحينما بان التعجب في عينيه “ملكش في أى حاجة كدا”. خجلاً أجبت بصوت خافت “بيرة فقط”. مط شفتيه ورفع الحباية لفمه قائلاً “والله أنت جيت هنا غلط، حكومة بنت كلب ظالمة”.

* * *

فتحت الحقيبة، أخرجت لفافة وجبة المشويات. بلا اعتبار لنصيحة كسح بسطت الطعام وعزمت عليه هو والزملاء. هجم كسح وتبعه العجوزان بينما دسست يدى إلى قاع الحقيبة مخرجاً الأوراق المجموعة في غلاف بلاستيكى شفاف. تناول العجوز الصامت صباع كفتح، وهو يهمس مرحباً: حمد لله على السلامة زيارة سعيدة.

هل كانت زيارة سعيدة؟ كنت سعيداً لأنها أحضرت الأوراق وسيلة مقاومتى ونجاتى من ظلمات الجُب الذي رميت فيه. لكنى أحسست أنها قد تكون المرة الأخيرة التى أري فيها عطيات على الأقل حتى خروجى من هنا ..إن خرجت في يوماً غير معلوم.

حضرت عطيات الزيارة المسائية لوحدها وبعد أول عشر دقائق لم نجد ما نقوله. في مواقف سابقة صامتة مثل هذه كنت أعد لنا مشروب بارد يحتوى على البراندى أو تجذبنى نحوها وهى تخلع ملابسي عنى. لكن الآن خرجت من صمتها باقتراح متلجلج تلقته من مجدى بيه بأن تسافر معه إلى الساحل لتغيير الجو والخروج من ضغوط الأزمة. ثم أضافت “أحتاج إلى رأيك أولاً، هل اسافر معه؟ لا أريد أن اتركك لوحدك لكنى أشعر بالعجز.” لم أقاوم ظهور شبح الابتسامة على شفتي كانت عطيات عاجزة حتى عن تمثيل العجز أو الحيرة وحتى الحزن وهى تحدثنى. عملياً لا شئ يمكن عمله إلا انتظار تعاقب متسلسله الاجراءات البيروقراطية والقانونية. ربّت على كفها وكان بارداً وأخبرتها “أنا في السجن ولا فائدة ترجى من حبسك لنفسك” غيرت الموضوع وقالت:

-أحضرت لك أوراق روايتك الجديدة التى كنت تكتبها.

وضعت حزمة الأوراق أسفل منى. جلست عليها وتناولت الكباب والكفتة مع كسح ورفيقي السجن. وصدى صوت أغنية قديمة يتردد داخلى “ودع هواك وانسانى”.

ما أن انهينا الطعام وجمعنا البقايا في كيس بلاستيكى حتى فُتح باب الزنزانة ودخل اثنان من العساكر وميمون يحملان رجل مكبل اليدين والساقين في هيئة شنطة. ألقوه على ظهره ولم يفكوا حتى القيود. ساقاه مكبلان ويديه كذلك بقيود حديدية، وكلبش ثالث يغلق طرفه على الحديد الواصل بين الساقين والطرف الآخر على الحديد المقيد للذراعين. مرمياً على أرض الزنزانة عاجزاً عن الوقوف أو الجلوس وكدمات متفرقة في أنحاء جسده. لسانه خارج فمه والزبد يسيل منها مشكلاً بركة لعاب صغيرة على الأرض. بهيمة تفرفر في طلوع الروح.

أغلقوا الباب بينما اطلق كسح وصلة سباب فيمن أحضروا الذبيحة وفي المباحث والحكومة والظلمة والكفرة. انحنى هو والعجوز الصامت على البهيمة التى كانت انسان مقيد في هيئة شنطة. كان واضحاً أنه أتى من السلخانة لدى إدارة المباحث الجنائية لكن في الغالب لم يفلحوا في انتزاع أى شئ منه حيث لا يزال رغم كل العذاب الذي ترك آثاره على جسده غارقاً في غيبوبة داخل عالم آخر نتيجة ابتلاعه لكمية من حبوب المخدرات والصراصير. نثر كسح على وجهة قطرات مياة لكنه هز رأسه دليلاً على حياته وإن كان تائها في عالم آخر بعيد عنا.

لزم كلاً منا مكانه بحذاء جدران الزنزانة، في حين ظل الرجل الشنطة/الحقيبة مقيداً نائماً على جانبه الأيمن في منتصف الغرفة. بحركة غير ملحوظة -أو هكذا أوهمت نفسي- وضعت النقود التى أعطتها لى عطيات في جيب سري بالشنطة القماش التى تحتوى على ملابسي والصابون ومزيل العرق. تبقي الورق في المغلف البلاستيكى الشفاف، أخرجته وتصفحت الأورواق حتى وصلت لآخر صفحة كتبتها. قرأتها فعاودتنى كل تفاصيل العالم الذي وضعت أساسه وجدرانه وأنفاس أرواحه. أعدت الورق إلى المغلف. أثري وأهم ما أملك، لم أعده للحقيبة بل وضعته أسفل الفرشة التى تمددت فوقها مستلقياً. أخرجت كتاب إيزيس وحاولت القراءة لكن اضوء كان شحيحاً فأعدت الكتاب إلى الحقيبة، واستلقيت نائماً.

في سباتى غرقت في حلم كنت أطوف فيه حول منزل أبى فلا أجد الباب للدخول، لكن أشعر بسعادة لأن هذا يعنى أن الأب المتعنت السكير لم يعد له وجود، ثم أتذكر أنه مات منذ زمن بعيد وفجأة تلطمنى موجة من باطن الأرض ترفعنى لأعلى. انتبهت مستيقظاً من الحلم لأجد “كسح” يدق الباب الحديدى براحتى يديه وهو يصرخ “واحد بيموت يا حرس”. أحد العجوزين يشهق بصعوبه وصدره يرتفع للأعلى وظهره يتقوس مصارعاً جبال وهمية ليأخذ نفسه، بينما العجوز الآخر تناول منشفة وصنع منها مروحة ليهوى بها على الآخر. أما الرجل الشنطة فكان جسده ينتفض كأنما تيار كهربائي يعبر من خلاله.

جاوب أحد الحراس نداء كسح “في أيه؟”. فصرخ كسح “عم محمد العجوز مش عارف يأخذ نفسه.. واحد بيموت يا حرس”. أتى الرد ساخراً “وأنا أعمل أيه”.

“تعمل أيه” زعق كسح بالعبارة شاخراً وأخذ يخبط حديد الباب بكلتا يديه وقدميه. لثانية تساءلت وماذا عن الرجل الشنطة. لكن تبدد السؤال تحت حقيقة اكتشاف أن هذا الوضع الهيستيري حيث الموت واللا موت والعقاب ورائحة الروث والعرق وكوابيس النوم وأحلام الصحو هو لمحة من أيامى القادمة.

تجمدت في مكانى عاجزاً عن التفكير في شئ وكسح مستمر في الصراخ والسب والخبط بكف يده على الباب. همد كسح للحظة ثم مد يده لداخل فمه وأخرج شفرة من تجويف حلقه، وصرخ مخاطباً الحرس “هموت لك نفسي يا حرس، هموت نفسي عليك يا ناصر” ثم ضرب شفرة الموس في فخذه الأيسر فانبجس الدم من لحمه وتوالت ضرباته لتفجر الدماء وترسم خريطة للجروح على جسده وهو يضرب رأسه في باب الزنزانة. العجوز الذي كان يقوم بدور محرك المروحة بيده التى تمسك المنشفة توقف عن التهوية وأخذ يشارك كسح الصراخ والخبط على الباب.

أغمضت عينى وتكورت على جسدى متوقعاً الأسوء. لكن عكس ما توقعت استجاب الحرس وهرعوا تحت قيادة المدعو ناصر لفتح الباب. اخرجوا العجوز للخارج بينما قيدو كسح بعدما نزعوا الشفرة من يده. استدعوا سيارة الاسعاف وأخذوا الاثنان خارج الزنزانة وتركونى مع الرجل الشنطة والعجوز الذي كان مروحة. لاحظ الأخير الحيرة على وجهى ولأنه كان يعرف أنها تجربتى الأولى في السجن فلقد تطوع لشرح كل ما حدث بادئاً بوصله مديح لجدعنه ورجولة كسح، فعم محمد نزيه -العجوز الأخر- يعانى من الربو وأزمات تنفس ولأنهم يعرفون ذلك فكثيراً ما يتجاهلون أى شكوى تخصه لأن الأزمات أحياناً تنتهى ما أن يخرج للهواء الطلق أو من تلقاء نفسها. لكن قوات الشرطة في النهاية مسئولة عن المساجين وأجسادهم لهذا قام كسح بما قام به فاتحاً باب المشاكل والدوشة لهم. فالآن يجب على الضابط النبطشي أن يستدعى سيارة إسعاف في كل الأحوال لمعالجة جروح كسح، ولكى يمنحه الممرض تقرير طبي عن تلك الجروح لكى يضعه في محضر إثبات الحالة الذي يجب تحريره، ويجب أن يقوم الضابط ناصر باحتواء كسح حتى لا يقوم الأخير بتوجيه أى اتهامات لضباط القسم حينما يتم عرضه غداً على النيابة.فوتوغرافيا: Alvin Booths

لكن ماذا عن الرجل الشنطة الذي هدأت الآن انتفاضات جسده بينما استمرت آهاته خافتة.

كان هذا شنطة/حقيبة وليس انسان. فهو تابع لقوة جهاز المباحث والأرجح ليس مسجلاً على قوة القسم، بل المباحث في الدور الثانى هى من أحضرته وهؤلاء هم قوة الحقيقة ومن أجل الحقيقة لا نحتاج لأوراق أو تسجيلات إلا في المرحلة الأخيرة ما بعد انتزاع الاعترافات حيث تحضر الأوراق لتوثيق الحقيقة ودفترتها وإحالتها لسلطة القضاء الامبراطوري، وحتى الوصول لهذه المرحلة -إن نال شرف الوصول- فهذا ليس إلا شنطة/حقيبة.

 

عزيزى انجفار، رسالة متأخرة ثلاثة أعوام

عزيزى انجفار،

تأخر هذا الخطاب ثلاث سنوات تقريباً. لكن أن تأتى متأخراً خيراً من ألا تأتى.

منذ ثلاث سنوات في مثل هذا اليوم تم الحكم علي بالسجن لمدة عامين بسبب رواية كتبتها، من المحكمة تم ترحيلى إلي قسم الشرطة حيث قضيت هناك ثلاث ليالى. أثناء وقتى هناك أحضر أصدقائي لى عدة كتب لقرائتها في عزلتى. لكنهم فجأة نقلونى من قسم الشرطة إلي السجن. وعلى باب السجن أخذوا منى الكتب التى كانت معى، وملابسي وأقلامى.

في أول يوم بالسجن، مضى الوقت بطيئاً جداً. والوقت هو جلاد المسجون الدائم الذي لا يفارقه، لكني اكتشفت أن السلاح الوحيد الذي يعتمد عليه المساجين لمواجهة الوقت هو القراءة. بعض المساجين الذين قابلتهم لم يفتح كتاباً في حياته، لكنه في السجن مُحَاطاً بالملل وغارقاً في الوقت اللانهائي لا يجد سوى الكتب والقراءة لتمضية الوقت.

غلاف رواية إلينج لانجفار
غلاف رواية إلينج لانجفار

لم أجد أمامى سوى كتاب مذكرات جيهان السادات –زوجة رئيس الجمهورية السابق- قرأت الكتاب في ليلة واحدة رغم سطحيته وتفاهته، مر أول يوم ولم أجد كتاب أخر سوى كتاب السيدة الأولى السابقة، حاولت قرأته مرة ثانية لكن بدا الأمر مؤلماً أكثر من الملل.

أخذت أتمشى في الزنزانة بحثاً عما أفعله، سألنى زميل سجين ما إذا كنت بخير؟ قلت له فقط أبحث عما اقرأه لأنى لا استطيع النوم. سمعنى سجين آخر وقال لى “فيه كتاب أدب مترجم جميل اوى مع فلان؟”

ذهبت إلي فلان، أخرج كتاب بغلاف أصفر كانت روايتك “إلينج” باللغة العربية. رفض اعطائي الرواية قال أنه لم ينهها بعد وعلى الانتظار للغد. لكن الملل كان يقتلنى لذا ظللت طوال اليوم اتمشى في الزنزانة الضيقة أمامه وأنا انظر له صامتاً مقتنعاً بقدرتى في التأثير عليه دون أن اتكلم، حتى استسلم منزعجاً واعطانى الرواية.

ألتهمت روايتك البديعة “إلينج” في ليلة واحدة، وحيث أنه لم يسمح لنا بالخروج من الزنزانة ليومين بعدها. فقد أعدت قراءة الرواية مرتين بتمهل وتمعن. تفاجأت  أن أكثر من سجين في الرواية كان معجباً بها وقرأها. بعضهم لسبب ما تخيل أن بطلى العمل كانا مسجونين، ولأنه في النرويج لا توجد سجون فقد وضعوهم في ذلك البيت الخاص. شخصياً سحرنى الشعراء في روايتك. وفي عزلتى وسط بقية المساجين وجدتنى أعود لكتابة الشعر بعد توقف دام لسنوات.

شكراً لك على هذه الرواية البديعة، وعلى الابتسامة التى منحتها لى، وتحياتى منى ومن الزملاء المساجين في زنزانة 4/2 بعنبر الزراعة طرة.

 

فالأمل للمسجون عذاب.. عزيزى أشرف فياض

عزيزي أشرف فياض،

أكتب إليك بلا أمل، لأنى أعرف إن الأمل للمسجون عذاب. صحيح إن غياب الأمل يوقع المرء في ضلالات الوحدة والاكتئاب، يبذر الغضب والنقمة على العالم، لكن هذا ما نحتاجه جميعاً ألا ننسى ولا نغفر، حتى وإن تظاهرنا بالخضوع لسلطان الغول الذي يفتح فكيه على اتساع المدى مبتلعاً كل أحلامنا ومغامراتنا.

منذ أكثر من عشر سنوات كنت أنت من طاردت السراب في صحراء السعودية محاولاً تحويل الفن المعاصر في السعودية من مغامرات فردية إلى حراك متحرر. بأعمالك ومقالاتك ونشاطك التنظيمي ساهمت في التعريف بمشهد فنى مغاير من هناك.

أنت المولود في السعودية عشت عمرك كله هناك بلا جنسية.

 الفلسطينى بلا انتماء لتنظيم سياسي يدافع عنك.

 بلا قبيلة تطالب بالافراج عنك.

 المسجون الآن بينما الفنانين الذين كنت تقدمهم من سنوات وتكتب عن أعمالهم وتنظم لهم المعارض ينطلقون الآن في فضاء العالمية على بساط مؤسسة “مسك” أحد أذرع الغول التي قبضت على المشهد الفنى المعاصر وحولته إلى وردة في جيب دشداشة الغول.

صورة للشاعر والفنان أشرف فياض
صورة للشاعر والفنان أشرف فياض

أكتب إليك بغضب، لكنى أمضغ غضبي في فمى بينما الشفاه تبتسم، لأن الغول الذي يسجنك في أحشائه، أذرعه في كل مكان وإن أراد قادر مهما ابتعدت على معاقبة كل من لا يبتسم له أو يصفق لبلاهته.

في السجن أحياناً كان غضبي ينفجر، في الزملاء المساجين مرة، وفي المخبرين السجانين مرة، وأحياناً ما حبست نفسي في الحمام وأخذت أصفع وجهى غاضباً من نفسي على سوء تقديري وأخطائي التي قادتني إلى هذا المكان. لكن خارج السجن هنا الآن لا يمكننى الغضب، بل أحمل الخوف كملاك على كتفي الأيسر، ابتسم للجميع سواء كان رفاق أو غيلان، واعبر لهم عن امتنانى لأني خارج السجن.

 

بعد نوبات الغضب في الحمام، غالباً ما كنت استمنى ثم استحم، وأخرج لانعزل في فراشي لساعات طويلة غارقاً في كتاب ضخم. رويداً رويداً، تعلمت توجيه غضبي نحو الفعل الصحيح، لا صفع الوجه أو ضرب الرأس أو الاستمناء بيأس بل بالقراءة ثم القراءة.

بالاستغراق في القراءة يمكنك الانعزال عن محيطك، أحياناً في بعض الكتب تزول حوائط السجن، لكن الأهم مهما كان مستوى الكتاب فهو يدفعك للتفكير، ينشغل ذهنك عن مأساتك، والأفضل من ذلك حينما تنام فتأتيك أحلام ليس فيها السجن، بل يتداخل هذيان الذاكرة بما تقرأها، ويشيد المخ في الحلم عالماً من السراب والضباب الملون.

لم ننس يا أشرف، رغم ضعفنا وقلة حيلتنا بل وانحنائنا للغول ومحاولة تفادى سلطانه، لم ننس ولم نغفر.

 السجن عزلة، مثلما يستهدف عزلك عن المجتمع ومعاقبتك بتدمير نفسيتك، يستهدفنا نحن كذلك باجبارنا على نسيانك، بأن نتحول لسجانين. إن نعتاد غيابك. إن نعتاد سجن الشعراء والكتاب والفنانين. أن يكون الخوف خبزنا اليومى.

يحدث إن يعمى الغضب المرء عن رؤية العالم، شعرت أحياناً في ليالى السجن بأننى لن أخرج أبداً، بأننى حتى لو خرجت لن يغادرنى السجن، بأن تسممت تماماً، وتلك الحشرات التي عشت بصحبتها  دخلت تحت جلدى ولن يمكننى التخلص منها أبداً. لكن كل هذا زال، وكل الكوابيس التي تحاصرك في جدران السجن ستزول، سيمضى كل هذا يا أشرف فوجه غضبك في المسار الصحيح، لا تجلد ذاتك، ولا تترك الغول يمسخك.

بأخوة الكتابة والأدب، بأواصر الفن والأحلام ينمو اتصالنا، حتى لو تقطعت سبل التواصل، فأتمنى إن تصلك محبتنا وأن تمدك بالطاقة على الحلم.

ثلاث حلقات مع بلال فضل

الآن اتكلم. شاهد على العصر افتح خزينة الأسرار واليوميات وكيف جري ما جري. كيف يتم تجنيد شباب الارهابيين داخل السجون؟ ما سر حجم القضيب الهيستيريا؟ من هى المرأة التى أكلت زوجها؟ ولماذا حكم القاضي عليّ بالسجن لمدة عامين؟ ومن هو وكيل النيابة الذي تسبب في هذه القضية؟ ما هى الكتب المسموح بها في السجن؟ لماذا أكل أبناء مصر بزاز مصر؟ ماذا تفعل بالمنفي؟ ماذا تصنع بالوردة وكيف تشم القنبلة؟ هو صحيح الهوى غلاب؟ كيف كانت الأيام مع علاء سيف؟ ما هو الغرض من الرقابة في مصر؟

كل هذه الأسئلة وأسئلة آخري تجدون إجابتها في ثلاث حلقات حوارية تشرفت أن أكون ضيفاً فيها في برنامج “عصير الكتب” مع بلال فضل على قناة العربي. أتمنى أن أكون ضيفاً خفيفاً




الشك باليقين -3 – سلسلة هزلية غير مكتملة

استيقظت على حذاء جلدى متسخ يهزنى. وصوت أجش يقول بتهكم “اصحى أنت فاكر نفسك نايم عند حماتك”. بذلت مجهوداً في السيطرة على انفعالي حتى لا يظهر الامتعاض على وجهى ثم اعتدلت على الفرشة جالساً. كان “منمون” في لباس مدنى، خاطبنى:

-قوم.. زيارة.

أخذنى من الزنزانة إلي قاعة الاستقبال في القسم حيث وجدت عطيات وصديق البار. ما أن رأتنى حتى وقفت وهى تغالب دموعها. عانقتها ثم صافحت صديق البار. أفهمنى أنه استطاع من خلال أحد معارفه ورشوة بسيطة تدبير تلك الزيارة المبكرة في غير مواعد الزيارة الرسمية في القسم والتى تكون في المساء. قال أن المحامى طمأنه. صحيح أن العقوبة هى الحبس التأديبي مدة غير معلومة كما تقتضى قواعد الحبس التأديبي لكن مثلما يعنى هذا أن المدة قد تصل لثلاثين شهر فقد تكون أيضاً ثلاث أسابيع كما ينص الحد الأدنى للعقوبة التأديبية غير المعلومة.

في القانون الامبراطوري الحبس التأديبي يختلف عن الحبس العقابي، فالأخير يكون بسبب جنحة أو جريمة محددة الأركان يستحق المدان عقوبة محددة لها. أما الحبس التأديبي فيكون لخروج الجانى عن روح القانون أو الناموس الامبراطوري أو تقاليد المجتمع أو العرف الدينى وتقرير ذلك متروك لروح القاضي. ولأن الغرض منه تأديب الروح لا عقاب الكينونة أو الجسد على فعل مادى تم ارتكابه فالحبس يكون منزوع الأمل بحيث لا يعرف المدان متى سيخرج ليغرق داخل ذاته ويراجع حياته منتظراً رحمة روح النظام الذي تعدى على روحه وهيبته. لكن المحامى مطمئن فمازال أمامنا درجتين للتقاضي وهو واثق من البراءة أو تخفيف الحكم أو إيقاف تنفيذه في درجات التقاضي القادمة. صحيح أن الاجراءات قد تستغرق أسابيع لكن من يدري ربما تنتهى مدة الحبس قبل حتى أن تبدأ إجراءات الدرجة الثانية من التقاضي.

لاحظت عطيات وجومى وأنا استمع لسرد صديق الحانة. وضعت كفها على يدى وهمست “متقلقش أنا كلمت مجدى بيه، ووعد أنك هتقضي المدة في سجن كويس، كل شئ سيكون على ما يرام، كل شئ سيمر سريعاً” أطبقت على يدها بكفي يديا الاثنين “لا تقلقى أنا بخير”.

أشارت عطيات إلي الحقيبة القابعة أسفل قدميها. قليل من الطعام، غيارات داخلية، كتاب لتزجية الوقت عن “إيزيس وعبادتها” كنت اقرأ فيه وتركته بجوار الفراش، سألتنى عما احتاجه، ولم أهتم إلا بطلب أقلام للكتابة، ووصفت لها مكان الأوراق وأين تجدها وأن تقوم بتصوير نسخة منها وإحضارها إلي. لوت شفتيها المكتزتين لكن لم تعترض ثم تلفتت حولها “وهل سيسمحون بدخولها” سألت. ضغطت على كفها “سنتصرف” جاوبتها.

فتحت الحقيبة وأخرجت لفافة منها “طيب كُل معايا، أنا عملت لك أكتر حاجة بتحبها سندوتشات كبدة ومسقعة”. عزمت على بسندوتش ثم على صديق البار.

بينما نتناول الطعام، دخل ضابط إلي القاعة بصحبة اثنين أصغر سناً منه، نظر نحونا ثم خاطب أحد الضباط بصوت عالى “مين دول، وليه قاعدين هنا؟” التفت الضابط الشاب حوله، فهرول ميمون نحوه وانحنى على أذنه هامساً بينما أكمل الضابط الكبير طريقه نحو غرفة كتب عليها “غرفة الأحراز” تبعه الضابطين الشابيين والميمون، ثم تعالى صوت الضابط الكبير من داخل الغرفة “مفيش الكلام دا، الزيارة في ميعاد الزيارة بس”. توتر صديق البار وبدا كمن يعتذر بلا كلام. خرج الضابط وهو يشعل سيجارته، بينما هرول الميمون نحونا وقد فهم صديق البار فقام واقفاً مستأذناً في الانصراف.

خرج الثلاثة من القاعة؛ صديق البار والميمون وعطيات بصحبتهما تتهادى بجسدها الملفوف في ثوب طويل أخضر ملتصق بجسدها مظهراً حدود ملابسهما الداخلية على كفلها الكبير الرجراج. شمس الظهيرة كانت تغرق الساحة الخارجية للقسم، ويسقط ضوئها عابراً باب قاعة الاستقبال مشكلاً مستطيل كبير المساحة على الأرض وقف فيه الضابط متابعاً خروجهم من باب القسم الخارجي أو للدقة خروج مؤخرة عطيات التى لطالما لفتت الأنظار. هز سيجارته بين أصابعه فسقط رمادها على الأرض، استدار برأسه نحوى “زوجتك؟”

لا مهرب ولا يمكن لمسجون أن يتحاشي سؤال سجانه. أول الدروس كما أن الحقيقة ليس ضرورياً أن تجلب المنفعة. نعيش مع بعض منذ سنوات لكن أبداً لم يكن الزواج بالمطروح، وعطيات لم تكن تجد للأمر داعى وأنا بعد تجربتى الوحيدة المشؤمة لم أجد في الأمر أى إغراء لتكراره. مع هذا أجبت الضابط على سؤال:

-نعم حضرتك.

* * *

اعتمد الجهاز الشرطى في تركيبة قبل العصر الامبراطوري على ثلاث فئات رئيسية، الضباط برتبهم الجمهورية المختلفة ويتخرجون من كلية الشرطة بعد دراسة لمدة أربعة أعوام، ثم أمناء الشرطة وهم من الفئات التى لم تكمل تعليمها الثانوى لأسباب مختلفة سواء لضعف قدراتهم العقلية والثقافية أو لظروفهم الاجتماعية أو الاقتصادية حيث يلتحقون بمعهد لإعداد الأمناء لمدة 18 شهر ثم يتم إلحاقهم للعمل كمعاونين للضباط. والفئة الثالثة هم العساكر المجندين الذين يتم اختيارهم من المجندين اجبارياً في الجيش حينما كان التجنيد إجباري في زمن الجمهورية حيث يعملون بدون أجر تقريباً في آخر السلم الوظيفي بجهاز الشرطة.

وحيث أن الأمناء كانوا يقيمون بغالبية العمل تقريباً دون أى تقدير معنوى لجهودهم وبفارق كبير في العائد المادى بينهم وبين الضباط، بل وحتى لم يكن مسموحاً لهم بالعلاج في ذات المستشفيات التى كان يعالج فيها ضباط الشرطة أو حمل السلاح في غير أوقات العمل إلي جانب العشرات من أوجه التمييز والتميز المختلفة، فقد استغل الأمناء فترة السيولة والاضطرابات التى سبقت التحول الامبراطوري، وأخذوا يضغطون من أجل الحصول على الكثير من الامتيازات والمساواة مع الضباط. ومع قيام الامبراطورية وبدأ الاصلاحات الأساسية النظامية تقرر لانهاء هذا التنافس وانعدام السماواة بين الأمناء والضباط حل معهد أمناء الشرطة وتحويل الأمناء لضباط صف. ليقتصر تركيب الجهاز الشرطى على فئتين؛ الضباط والعساكر المجندون.

 العساكر لا يمكن الاعتماد عليهم لأنهم مجندون لفترات زمنية محددة، وغالباً لا يتقنون القراءة والكتابة. والأهم أن الضباط لم يشعروا أنهم ضباط بلا أمناء يصدرون لهم الأوامر ويعتمدون عليهم ويشكلون نافذة تعامل بينهم وبين المدنيين. هنا برز “المنمون” كوسيط مدنى محسوب على السلطة القانونية لا الشرطية.

برزت الحاجة إلي الميمون في كل الجهاز الاداري للامبراطورية لا الشرطي فقط. فكان الحل في افتتاح “الجبلاية الإدارية العليا” وهى معهد بفروع منتشرة على طول وعرض الإمبراطورية. الدراسة فيه لمدة تسع شهور. تحصل بعدها على شهادة معتمدة من إدارة الجبلاية العليا التابعة للمشروع الامبراطوري لتأهيل الشباب. ثم تتقدم لدفع عربون لأى مكتب حكومى يحتاج لميمون، لتحصل على كارنيه “ميمون” معتمد من تلك الوزارة أو الإدارة الحكومية أنك ميمون رسمى تابع لا منتمى لها، وأحياناً تمنع بعض الادارات الحكومية والامبراطوية مع الكارنية طيلسان ترتديه وقت الخدمة حتى يسهل تميزك عن المواطنيين المدنيين والموظفيين الامبراطوريين. بعض الهيئات تمنح “الميامين” التابعين لها زى رسمى وتجبرهم على ارتدائه أو الالتزام بألوان وقواعد تفصيلية ولونية في الملابس. لا يتقاضي الميمون أى أجر رسمي من الهيئة التابع لها فهو ليس موظف وليس لديه مواعيد عمل رسمية، بالتالي فلا يحمل الجهاز الإداري للدولة وميزانيتها أى أعباء إضافية. بل يحصل على أجره بشكل مباشر من المواطنين المتعاملين مع الهيئة.

لنفرض أنك دخلت إلى مكتب إداري ما من مكاتب الإدارة الحكومية الإمبراطورية سواء كانت هيئة عليا أو سفلي  أمنية أو اجتماعية أو خدمية، وذلك لإنجاز معاملة رسمية ما من أى نوع. لنفرض أن هذه المعاملة تطلب منك المرور على ثلاث مكاتب حكومية وإضاعة يوم كامل وربما أكثر من وقتك، هنا يظهر لك الميمون يتقاضى أجره/ إكراميته وينجز لك المعاملة. هكذا قلص ظهور الميمون الوقت الذي تستهلكه البيروقراطية الإدارية، وقضي على الرشاوى والفساد من خلال تقنينه، وكل هذا بدون تحميل الموازنة العامة أعباء مالية إضافية التزاماً بقرارات وشروط صناديق النقد ومعابد الدولار ومؤسسات التمويل والتصنيف الائتمانى الدولية

 

9a5fa0a9a32f970ca10ebf1697de7632
لوحة استشراقية تعود لزمن الاحتلال الفرنسي للجزائر للفنان Horace Vernet

 

الشك باليقين -2- سلسلة هزلية غير مكتملة

في عربة ترحيلات من الصفيح، وبأيدى مكبلة بقيود حديدية صنعت في تايلند نقلت مع ثُلة من المساجين إلي قسم الشرطة في منطقة رملة البواكى. وقفنا في طابور العد والتمام لدى وصولنا القسم. أتى ضابط برتبة كبيرة نظر إلي حذائي وبدلتى التى بدت متابينة بجوار غيري من مساجين يغطيهم التراب وملابسهم عليها آثار العرق وبهدلة الحجز. تناول الضابط أورواقي ونظر فيها ثم إلي أمين الشرطة الذي يصحبنا، ثم وقع على الأوراق وبلا داعى للصراخ رفع صوته، دخلهم يلا يابنى مش عايزين دوشة وزحمة هنا.

فك “منمون” الأغلال الحديدية من يدى وقادنى نحو الزنازين. فح بجوار أذنى أثناء سيرنا هامساً، كامل بيه شكلك محترم وابن ناس والقسم عندنا عيال مجرمة ومبرشمة لكن كلمت لك الضابط يحطك في أودة عندنا للمرضي والعواجيز والموظفين والناس المحترمة زى حضرتك. فهمت إشارته وجاوبته، تسلم في عينى ياباشا تيجى الزبارة بكرة وهزبطك.

-أنا مش جاى بكرة.

أخرجت من جيبي ورقة واحدة فئة الألف جنيه هى كل ما كان معى حيث تركت محفظتى مع عطيات قبل ترحيلنا من المحكمة. قلت له، كل اللى معايا تاخد مائتين وتجيب الباقي. تناولها من يدى وهو يفتح لى باب الزنزانة ويقول، أفكها وأجى لك.

ثم أغلق باب الزنزانة خلفي. لم يأتى ثانية بالطبع.

* * *

أنا أكون في زنزانة في حى رملة البواكى، صدفة أم إشارة على الطريق. قبل أيام من المحاكمة كنت غارقاً في تاريخ هذا الحى الواقع على ضفاف النهر. باب المدينة الشمالي في قرون سابقة وموقع الميناء النهري القديم. من هنا دخلت الجيوش منتصرة، وخرجت غير آسفة. عبرت القوافل في طريقها للشرق. حملت البضائع على السفن في طريقها للشمال. دخل الرسل والسفراء القادمين من بلاد الشمال باردة متهيبين من رائحة المدينة النافذة. بركت الجمال في انتظار الأحمال والسلع. وأمام مبنى القسم كانت الأروقة المعمدة التى تحتوى البواكى تحتضن الأسواق ويصطنع التجار من أقواسها خانات ومحال تعرض فيها خيرات ثروات الشرق والغرب. أرض القسم الذي أنزل فيه سجيناً الآن من سبع قرون كانت قصر الدرك ومقر المحتسب. مجلس المحتسبين يزنون السلع، يفتشون السفن، يطلعون على هويات المسافرين ويسجنون المشتبه فيه، يمارسون دوراً قديماً يعود إلي آلاف السنة الخيالية حيث قبض أجدادهم على أخو النبي يوسف بتهمة السرقة قبل خروجه مع أخوته من ميناء بري آخر.

لا تزال البواكى الحجرية صامدة في الخارج، وأجزاء كاملة من الأروقة المعمدة تنتصب وعلى جدرانها أثار السباخ والهباب وتلوث مئات السنين. زرتها قبل أيام لمعايشة أشباح روايتى التاريخة الجديدة التى أعمل عليها. لكن فخر أسواق العالم تبدد. والبواكى صارت ورش لتصليح السيارات وأعمال النجارة البدائية وتشكيل الحديد. لكن مقر الدرك هدم أكثر من مرة حتى صار واقع حاله ودخلته اليوم سجيناً.

مع حلول المساء افترشت بطانية وسخة تفوح رائحة العطن منها. لم يكن معى في الزنزانة غير عجوزين، ولم نتبادل طوال النهار إلا كلمات بسيطة. عزم أحدهم عليا بسجارة لكن اعتذرت.

غير مدخن.

خفت أن يري موقفي تكبراً. فقبلت رشفة من الشاى الذي ادخله له السجان في زجاجة بلاستيكة انكمشت بفعل حرارة المياة داخلها.

ثلاثة أمتار في خمسة مساحة الزنزانة، جدار في الركن يحتوى على حفرة وصنبور مياة مشكلاً ما يفترض أنه حيز الحمام. باب حديد، نافذة بقضبان وشبكة حديدية صدءة، يمكن من خلالها أن تلمح قمم أشجار المستشفي العتيق المجاور للقسم. في سقف الغرفة مصباح أقرب لزاوية الحمام، وتكيف معطل محاط بقفص معدنى حتى لا تطاوله أيدى المساجين فتخربه أو تكسر أجزاء منه.

حاولت النوم دون جدوي. انتبهت لفراغ معدتى لم أكل طوال اليوم، لكن رغم ذلك لم أشعر بالجوع. انتبانى الحنق لاستسلامى واستهانتى رغم وجود عشرات الأمثلة المشابهة لحالتى لاقت ذات المصير. كيف لم أتعظ وظللت واثقاً من حصانتى الوهمية وأنى لن ألاقي ذات المصير.

هونت الأمر على نفسي بأنى على الأقل في السجن لست مقتولاً، ولا مطعوناً بسكين في الرقبة مثل الكاتب اللص المأفون الذي كانت سرقته لحياتى دافعاً لاكتشاف صوتى، وامتهان الكتابة. الكتابة التى قادتنى لهنا وابعدتنى عن حضن عطيات، في زنزانة بصحبة عجائز لا يتوقفون عن تدخين السجائر الرخيصة. لكنى ما خسرت السبيلا، ولست بنادم حتى لو لم أعرف خطيئتى.

خلعت جاكيت البدلة. طبقته ووضعته أسفل رأسي كوسادة، لكن النوم لم يأت بل حضرت أمى وحياتى معها. حنانها وعيونها الخضراء. تمنيت لو أنام لأحلم بها لكنى حتى لو غفوت أعرف أنها لن تزورنى.

غفوت فيما يشبه خلسات الكري. حينما استيقظت كان نسيم بارد منعش يدخل من النافذة مجدداً هواء الغرفة. ارتفع صوت غناء كروان. الفجر يقترب وأصوات يقظة الطيور وغنائها ورفرفة الأجنحة تزداد. تماماً كالغناء الذي كنت أسمعه صغيراً في بيتنا بجزيرة الروضة في وسط مجري النهر. كانت ماما تستيقظ في مثل هذا الوقت كأنما الكروان والعندليب وطيور الأشجار النهرية تغنى لها، وفي طريقها للوضوء إلي الحمام ترد ماما على الطيور وهى تبسمل وتسبح وتشكر، وأعرف أنها في تمتماتها تدعو لى.

تنهدت بصوت عالي مغالباً صعود الدمع لعينى. فات أوان الندم، وخفف من ألمه غناء الكروان الآخذ في التصاعد ككورال موسيقي يرد بعضه على بعضه. استدرت مستلقياً على جانبي الأيمن وبينما ادخل لأرض النوم أتانى صوت الغناء البعيد من التكية واضحاً بلغة لم يعد أحد يغنى بها في هذه البلاد “بلبلي خون دلى جورد/ وكلى حاصل كرد”.

غفوت عند شروق الشمس من جديد.

 

الشك باليقينن -2- سلسلة هزلية غير مكتملة

في عربة ترحيلات من الصفيح، وبأيدى مكبلة بقيود حديدية صنعت في تايلند نقلت مع ثُلة من المساجين إلي قسم الشرطة في منطقة رملة البواكى. وقفنا في طابور العد والتمام لدى وصولنا القسم. أتى ضابط برتبة كبيرة نظر إلي حذائي وبدلتى التى بدت متابينة بجوار غيري من مساجين يغطيهم التراب وملابسهم عليها آثار العرق وبهدلة الحجز. تناول الضابط أورواقي ونظر فيها ثم إلي أمين الشرطة الذي يصحبنا، ثم وقع على الأوراق وبلا داعى للصراخ رفع صوته، دخلهم يلا يابنى مش عايزين دوشة وزحمة هنا.

فك “منمون” الأغلال الحديدية من يدى وقادنى نحو الزنازين. فح بجوار أذنى أثناء سيرنا هامساً، كامل بيه شكلك محترم وابن ناس والقسم عندنا عيال مجرمة ومبرشمة لكن كلمت لك الضابط يحطك في أودة عندنا للمرضي والعواجيز والموظفين والناس المحترمة زى حضرتك. فهمت إشارته وجاوبته، تسلم في عينى ياباشا تيجى الزبارة بكرة وهزبطك.

-أنا مش جاى بكرة.

أخرجت من جيبي ورقة واحدة فئة الألف جنيه هى كل ما كان معى حيث تركت محفظتى مع عطيات قبل ترحيلنا من المحكمة. قلت له، كل اللى معايا تاخد مائتين وتجيب الباقي. تناولها من يدى وهو يفتح لى باب الزنزانة ويقول، أفكها وأجى لك.

ثم أغلق باب الزنزانة خلفي. لم يأتى ثانية بالطبع.

* * *

أنا أكون في زنزانة في حى رملة البواكى، صدفة أم إشارة على الطريق. قبل أيام من المحاكمة كنت غارقاً في تاريخ هذا الحى الواقع على ضفاف النهر. باب المدينة الشمالي في قرون سابقة وموقع الميناء النهري القديم. من هنا دخلت الجيوش منتصرة، وخرجت غير آسفة. عبرت القوافل في طريقها للشرق. حملت البضائع على السفن في طريقها للشمال. دخل الرسل والسفراء القادمين من بلاد الشمال باردة متهيبين من رائحة المدينة النافذة. بركت الجمال في انتظار الأحمال والسلع. وأمام مبنى القسم كانت الأروقة المعمدة التى تحتوى البواكى تحتضن الأسواق ويصطنع التجار من أقواسها خانات ومحال تعرض فيها خيرات ثروات الشرق والغرب. أرض القسم الذي أنزل فيه سجيناً الآن من سبع قرون كانت قصر الدرك ومقر المحتسب. مجلس المحتسبين يزنون السلع، يفتشون السفن، يطلعون على هويات المسافرين ويسجنون المشتبه فيه، يمارسون دوراً قديماً يعود إلي آلاف السنة الخيالية حيث قبض أجدادهم على أخو النبي يوسف بتهمة السرقة قبل خروجه مع أخوته من ميناء بري آخر.

لا تزال البواكى الحجرية صامدة في الخارج، وأجزاء كاملة من الأروقة المعمدة تنتصب وعلى جدرانها أثار السباخ والهباب وتلوث مئات السنين. زرتها قبل أيام لمعايشة أشباح روايتى التاريخة الجديدة التى أعمل عليها. لكن فخر أسواق العالم تبدد. والبواكى صارت ورش لتصليح السيارات وأعمال النجارة البدائية وتشكيل الحديد. لكن مقر الدرك هدم أكثر من مرة حتى صار واقع حاله ودخلته اليوم سجيناً.

مع حلول المساء افترشت بطانية وسخة تفوح رائحة العطن منها. لم يكن معى في الزنزانة غير عجوزين، ولم نتبادل طوال النهار إلا كلمات بسيطة. عزم أحدهم عليا بسجارة لكن اعتذرت.

غير مدخن.

خفت أن يري موقفي تكبراً. فقبلت رشفة من الشاى الذي ادخله له السجان في زجاجة بلاستيكة انكمشت بفعل حرارة المياة داخلها.

ثلاثة أمتار في خمسة مساحة الزنزانة، جدار في الركن يحتوى على حفرة وصنبور مياة مشكلاً ما يفترض أنه حيز الحمام. باب حديد، نافذة بقضبان وشبكة حديدية صدءة، يمكن من خلالها أن تلمح قمم أشجار المستشفي العتيق المجاور للقسم. في سقف الغرفة مصباح أقرب لزاوية الحمام، وتكيف معطل محاط بقفص معدنى حتى لا تطاوله أيدى المساجين فتخربه أو تكسر أجزاء منه.

حاولت النوم دون جدوي. انتبهت لفراغ معدتى لم أكل طوال اليوم، لكن رغم ذلك لم أشعر بالجوع. انتبانى الحنق لاستسلامى واستهانتى رغم وجود عشرات الأمثلة المشابهة لحالتى لاقت ذات المصير. كيف لم أتعظ وظللت واثقاً من حصانتى الوهمية وأنى لن ألاقي ذات المصير.

هونت الأمر على نفسي بأنى على الأقل في السجن لست مقتولاً، ولا مطعوناً بسكين في الرقبة مثل الكاتب اللص المأفون الذي كانت سرقته لحياتى دافعاً لاكتشاف صوتى، وامتهان الكتابة. الكتابة التى قادتنى لهنا وابعدتنى عن حضن عطيات، في زنزانة بصحبة عجائز لا يتوقفون عن تدخين السجائر الرخيصة. لكنى ما خسرت السبيلا، ولست بنادم حتى لو لم أعرف خطيئتى.

خلعت جاكيت البدلة. طبقته ووضعته أسفل رأسي كوسادة، لكن النوم لم يأت بل حضرت أمى وحياتى معها. حنانها وعيونها الخضراء. تمنيت لو أنام لأحلم بها لكنى حتى لو غفوت أعرف أنها لن تزورنى.

غفوت فيما يشبه خلسات الكري. حينما استيقظت كان نسيم بارد منعش يدخل من النافذة مجدداً هواء الغرفة. ارتفع صوت غناء كروان. الفجر يقترب وأصوات يقظة الطيور وغنائها ورفرفة الأجنحة تزداد. تماماً كالغناء الذي كنت أسمعه صغيراً في بيتنا بجزيرة الروضة في وسط مجري النهر. كانت ماما تستيقظ في مثل هذا الوقت كأنما الكروان والعندليب وطيور الأشجار النهرية تغنى لها، وفي طريقها للوضوء إلي الحمام ترد ماما على الطيور وهى تبسمل وتسبح وتشكر، وأعرف أنها في تمتماتها تدعو لى.

تنهدت بصوت عالي مغالباً صعود الدمع لعينى. فات أوان الندم، وخفف من ألمه غناء الكروان الآخذ في التصاعد ككورال موسيقي يرد بعضه على بعضه. استدرت مستلقياً على جانبي الأيمن وبينما ادخل لأرض النوم أتانى صوت الغناء البعيد من التكية واضحاً بلغة لم يعد أحد يغنى بها في هذه البلاد “بلبلي خون دلى جورد/ وكلى حاصل كرد”.

غفوت عند شروق الشمس من جديد.


نائل الطوخى: دروس مستفادة من حبس ناجي، أولها الفردية

تمر هذه اﻷيام ستة أشهر على حبس اﻷديب أحمد ناجي بسبب مقاطع نشرها من روايته “استخدام الحياة” في جريدة أخبار اﻷدب، واتهم على إثرها بـ”خدش الحياء العام”. يُعد ناجي اﻷديب الوحيد المحبوس حاليًا في سجون النظام بسبب أدبه، ولكن على ما يبدو فهذا لا يكفي لتفسير اختلاف قضيته عن سائر القضايا في عيني المتابعين. بهذه المناسبة، وبعد أن هدأت قليلًا حدة البيانات الانفعالية المتضامنة، يمكننا أن نحاول اﻹجابة على سؤال “لماذا يختلف حبس أحمد ناجي عن حبس غيره؟”، ما يقودنا مباشرة إلى سؤال آخر: “لماذا يختلف أحمد ناجي عن غيره؟”

شارك ناجي في ثورة يناير، ولكن لم يمنعه هذا أبدًا من اتخاذ مواقف مستفزة طول الوقت لجموع الثوريين. لم يكن ممن انخرطوا بعنف في الاستقطابات التي اشتعلت في مصر عقب الثورة، وإنما كان يقف على حافة الاستقطاب دائمًا ، يتأمل من الخارج حارقًا دم جميع المستَقطبين. وعلى العموم، فقد وصف ناجي فيما بعد مشاركته في الثورة بـ”العمل الصبياني”.

12441_217603880350_541205350_4538118_6655916_n
بورترية لنائل الطوخى

طول الوقت يغني الكثير من الشعراء والأدباء للفردانية، ولكن ما أن يظهر على أرض الواقع شخص كامل الفردية، متخلص من ضغط الجماعات المتناحرة من حوله، حتى يشعرون بعدم ارتياح. لهذا كره الكثيرون ناجي؛ ﻷن الفردية الكاملة، رغم كونها قيمة محبوبة نظريًا (انظر لكم اﻹعجاب الذي تُنطق به عبارة “لا يشبه إلا نفسه”)، هي في الحقيقة شائكة وموحشة وغير مريحة، حتى لمن يتغنّون بها.

يشكل القطيع دائمًا حماية للشخص؛ يستأنس به ويشعر بالدفء في وجوده. وبالتأكيد يشكّل تهديدًا للسلطة، فالمجموع أقوى من الفرد بطبيعة الحال، ومجموعات متحدة يمكنها تكسير جدار لا يقوى على تكسيره فرد واحد. ولكن ما نريد قوله إن الانتظام في جماعة ربما أيضًا لا يكون عمليًا في جميع اﻷحوال؛ أحيانًا ما يسهّل القطيع سيطرة السلطة على المعارضة. فلأن القطيع يلزمه رأس، يمكن تشتيته بمجرد نزع رأسه.

هذا يقودنا إلى ثورة يناير، والتي كانت عبارة عن مجاميع ضخمة تتكون من أفراد لا يملك كل منها إلا حسابًا على فيسبوك.

في فيلم “حياة براين”، يتبع المؤمنون براين، الذي يتصورونه المسيح الجديد. يؤكد لهم هذا مرارًا وتكرارًا أنه ليس المسيح فلا يصدقونه، فيصرخ فيهم “ليس عليكم أن تتبعوا أي شخص، أنتم أفراد”، فيهتفون بشكل جماعي ومتجانس تصديقًا لكلامه: “نحن أفراد!” يصرخ فيهم “كلكم مختلفون عن بعض”، فيهتفون بشكل جماعي: “نعم. نحن كلنا مختلفون عن بعض!” يبدو لي كثيرًا أن هذا التزاوج بين الفردي والجماعي كان مفتاح ما حدث في الثورة.

على خلاف اﻹخوان المسلمين، الذين هم أكبر جماعة منظمة في تاريخ مصر الحديث، والتي أمكن تشتيتها فقط عبر نزع رأسها، فلم يمكن هذا بعد مع ثوريي يناير. لا يزال اﻷخيرون قادرين على الإلهام وعلى توجيه المجتمع باتجاه رؤاهم.

“التشتيت” ليس اللفظ اﻷدق. فصحيح أن اﻹخوان المسلمين تشتتوا، ولكن الثوريين مشتتون طول الوقت أيضًا. قد يكون اللفظ اﻷدق هو “نزع السحر”. أمكن نزع السحر عن اﻹخوان المسلمين عبر عزل مرسي، ولم يمكن هذا بعد مع الثوريين. الثورة بلا قائد، كان هذا من البداية إلهام الثورة ومقتلها في آن. وﻷنها بلا قائد، وﻷنها عبارة عن مجموعات مختلفة ومتباينة، تتكون من أفراد مختلفين ومتباينين، لا يجمعهم إلا السخط على الوضع القائم، فقد أمكن لهؤلاء اﻷفراد التسلل في المجتمع، أحرارًا ومرنين، ونزع السحر عن النظام العسكري الحاكم وعن اﻹسلاميين في الوقت ذاته.

في هذا كان ناجي ممثلًا لروح الثورة، أو لروح “الإنترنت”، أو لـ”المعاصرة”. واﻷخيران، اﻹنترنت والمعاصرة، كانا حجته الدائمة. يكفي أن يشير ناجي إلى نظرية بأنها قديمة، حتى تبدأ مجموعات من حوله في الانفضاض عنها، تتبعها مجموعات أخرى أوسع، وهكذا.

المؤسف والمعقد أنه كما كان ناجي فردًا كاملًا، فقد أتى التضامن معه فرديًا أيضًا. بعد فورة البيانات القوية لم يعد يشير لناجي إلا أشخاص معدودون. رغم محاولات اﻷدباء لتنظيم حركات تضامن واسعة، على غرار الحركات التي تطالب بالحرية لفلان أو لغيره، إلا أن شيئًا في وعي المتضامنين كان يشير إلى أن الموضوع مختلف قليلًا. كأن ناجي لم يرغب هو نفسه في هذا التضامن. أو كأن التضامن الجماعي هو ضد مشروعه باﻷساس.

هذا هو العيب الأساسي للفردية، كونها غير قادرة على توفير الحماية لصاحبها. قد تحميه فكريًا، ولكنها لن تحمي جسده من الإيذاء على يد السلطة.

***

اﻵن يبدو طبيعيًا أن يُحبس ناجي بسبب كتابته، ولكن هذا ليس إلا بأثر رجعي. قبلها، لم يتخيل أحد من أصدقائه أو المتضامنين معه إمكانية حبسه. ظل ناجي وحده في مكان بعيد عن الصراع السياسي الدائر، وبالتأكيد عن اﻷحكام بالحبس، ﻷنه فرد أولًا ولا يعبر سوى عن وجهات نظر شديدة الفردية، وﻷن في سجالاته شيء شديد الشبه باللعب.

بعد حبسه، خمن الكثيرون أنه حُبس ﻷسباب لا علاقة لها بالبذاءة، وإنما لأسباب سياسية، في محاولة ربما للتقليل من شأن قدرة البذاءة على استفزاز السلطة. ورغم وجاهة النظريات المطروحة، فقد كان التفسير اﻷبسط أكثر إقناعًا؛ ناجي محبوس بسبب الألفاظ البذيئة التي استعملها في كتاباته. رجاء عودوا إلى الفصل المنشور وفكروا، هل يمكن لمصري من الطبقة الوسطى، مصري غير مثقف ولا يؤمن بحرية التعبير، ألا يغضب من ألفاظ كهذه؟ ثم السؤال التالي: ماذا سيفعل شخص كهذا إن وجد نفسه يملك سلطة الحبس، وهو يقرأ الفصل المنشور؟ سيستخدم السلطة التي يمتلكها بطبيعة الحال. وكل الكلام (الدستوري) حول “الحق في التعبير” و”حرية الرأي” و”لماذا يؤخذ الكلام إلى المحكمة”، لن يعدو أن يكون رطانة بالنسبة له، قبيحة أو جميلة، ولكنها في نهاية الأمر رطانة تتحطم أمام هذا الولد الذي يحتاج لإعادة تربية من جديد.

في هذا السياق، لا تمكن اﻹشارة لشخص أحمد ناجي بدون اﻹشارة لسخافاته المتكررة. بدا ناجي طول الوقت كأنه يأخذ موضوع “التساخف” كلعبة مسلية، حتى وإن لم يخل تساخفه من منطق ومن ذكاء في كثير من اﻷحيان. كان قادرًا على تحويل أي رأي جاد لمسخرة بكلمتين، وعلى إحراج الكثيرين ممن بذلوا مجهودًا ضخمًا في صياغة نظرية ضخمة بكلمة واحدة. وفي المقابل، بدأ الكثيرون مع الوقت أيضًا ينمّون مهارة التعامل مع سخافاته، حتى أصبح التساخف والتساخف المضاد لعبة مثيرة بالنسبة لنا، نمّت ذكاءنا وعلمتنا أن الآراء لا ينبغي أن تقال بسبب الوجاهة التي تمنحها لقائلها، ﻷن ناجي (ومعه الإنترنت) قادران على هدم هذه الوجاهة في ثانية.

ما حدث بالضبط هو أن شخصًا أتى من الخارج، بلا أي معرفة بقواعد اللعبة، فمزق أوراقها وحبس لاعبًا فيها. هذا التفسير الأبرز لإحساس الصدمة وعدم التصديق لدى الكثيرين من حبس ناجي، بالأحرى لدى الكثيرين ممن تساخف عليهم ناجي سابقًا؛ هناك شيء ما انتُهك في القواعد؛ ناجي ينتمي للمساحة التي نلعب فيها، لا المساحة التي يلعبون فيها.

هناك بالطبع الكثيرون ممن تساخف عليهم ناجي وهاجموه بعد حبسه، وهذا طبيعي، فأحيانًا يرغب المهزوم في اللعبة بأن تأتي السلطة وتعتقل المنتصر. ولكن اﻷغرب هم هؤلاء الذين لم يحتك بهم ناجي أبدًا، ولم يطب لهم الهجوم عليه إلا بعد حبسه. ربما خافوا من احتمال أن يتساخف عليهم في المستقبل؟ ربما كان وجوده مريبًا بالنسبة لهم، حتى مع عجزهم عن تعريف سبب الريبة هذه؟ ربما أحسوا أنه ابن ثقافة معادية لهم بالضرورة؟ على العموم، كثيرًا ما يجتمع الجبن والنذالة في نفس الشخص، ولا ينبغي أن يشغل المرء باله بهذا النوع من الجبناء اﻷنذال، ﻷنهم في الغالب تعساء أيضًا.

***

بالإضافة لفرديته، فناجي ليس شخصًا واسع التأثير كذلك. لا يظهر على التليفزيون، ولا كتبه تباع بعشرات اﻵلاف، ولا يملك منصبًا حكوميًا عدا عن كونه صحفيًا في جريدة “أخبار الأدب” النخبوية. لا يملك إلا حسابًا على فيسبوك وآخر على تويتر، ومقالات يكتبها كلما عنَّ له.

ربما يكون عميق التأثير، ولكن ليس واسعه، أعني أنه ذلك النوع من اﻷشخاص الذين يتسرب تأثيرهم إلى من حولهم، بفضل طزاجة منطقهم فحسب، وليس بفضل احتلالهم مواقع واسعة التأثير بطبيعتها. هذا أيضًا واحد من أسباب اﻹحساس بالصدمة لدى من يعرفونه، ﻷنه لا يُخشى من تأثيره السياسي الواسع، وﻷنه لم يدع أي دور قيادي.

ركز ناجي سهام سخريته كثيرًا على “المكانة الاجتماعية”، حطم مكانات اجتماعية كثيرة لأناس حوله بمنتهى البساطة، ومع كل هذا، فلم يدعِّ الزهد والصعلكة، على غرار شعراء الستينيات مثلًا، بل كان دائم التغني مثلًا بأهمية الفلوس وبأن يحيا المرء حياة جيدة. بعد رحيل البرادعي لفيينا مع ما أثاره هذا من خذلان في قلوب محبيه، حياه ناجي بحرارة على صفحته الشخصية ﻷنه قرر أخيرًا أن يعيش حياة مريحة كبرنس معه فلوس.

إن كان هناك هدف رئيسي لناجي يؤمن به فهو التقدم، وإن كان لهذا الهدف تكنيك فهو الصراع. كثيرًا ما أخذ يردد في السنوات اﻷخيرة: “الصراع دينامو التقدم”. ويبدو لي أحيانًا أن التقدم كما يعنيه هو أن يفكر البشر من حوله في أشياء لم يفكروا فيها من قبل. وهذا ليس أمرًا سهلًا أبدًا، وإنما يمر عبر طريق طويل من استفزاز العقل والتساخف المستمر، وكان ناجي شديد المهارة في كليهما.

خالد منصور يكتب: ستازي وفرويد وورطة مصر

في الجزء الأول من هذه المقالة ذهبت إلى أن الإجراءات الصارمة التي تتخذها الدولة المصرية ضد السلوك «الهدّام» من وجهة نظرها لا تأتي فحسب من مجرد رغبة سلطوية في السيطرة على المجتمع، بل إنها تضرب جذورها في حالة من التيه الجمعي، وفي إرث من الحداثة الكولونيالية يرمي إلى التشبث بالوضع القائم والماضي المتخيَّل.

وعليه فإن معاملة «الآخر» ترتبط جوهريًا بالتصور عن الذات، ما يجعل الحط من شأن الأقليات أو إنزال العقاب عليها وعلى من يختلفون في طريقة لبسهم أو تعبيرهم عن أنفسهم ضرورة لتقدير الذات. واعتبار الاختلاف خطرًا يؤدي إلى تبنِّي موقف متناقض، يكون فيه الاختلاف موضع اشمئزاز، وفي الوقت نفسه تذكرة بعجز الذات. فكأن النخب المصرية ـ من ساسة وقضاة وصحفيين وشرطة ـ في دفاعها عن الماضي الديني والثقافي والسياسي «المجيد» تذكِّر نفسها بدونيتها المادية الراهنة من خلال ممارستها الاستعلائية لتفوقها المفترض.

لقد حذر سيجموند فرويد في كتابه «الوجيز في التحليل النفسي» An Outline of Psychoanalysis (الصادر سنة 1939) من تحطم المجتمع في حالة «المقاومة الفاشلة للعالم الخارجي إذا ما تغيَّر هذا العالم على نحو لا يمكن أن تتعامل معه تكيفات السلالة (المجتمع) التعامل المناسب».

وبالتالي لا تعكس الضراوة المتزايدة للموقف السلبي من حرية التعبير في مصر خلال السنوات الأخيرة مجرد رغبة النخبة الحاكمة في السيطرة الاجتماعية، لكنها نتيجة أيضًا لخطر تتصوره ذات وطنية بطريركية أُضفي عليها طابع رومانتيكي وأعيد تغليفها في أوائل سنوات مصر ما بعد الكولونيالية، لا سيما في خمسينيات القرن الماضي. لقد أنتجت عقود التدهور الثقافي والاجتماعي الاقتصادي ـ لا سيما منذ هزيمة 1967 المخزية ـ ذاتًا مصرية نمطية ممزقة بين قومية مؤمنة بصوابها وتحظى برعاية الدولة وأيديولوجيات إسلاموية وواقعًا من الفشل والمهانة. ويمكن تتبع أصول هذا وصولًا إلى أول اشتباك حاد، وقد يوصف بالعنف أيضًا، بين المجتمع والحداثة عندما غزا الجيش الفرنسي بقيادة نابليون البلد سنة 1799. فمنذ ذلك الحين بات الجدل يحيط بكثير من الأعراف والتقاليد ـ لا سيما في ما يتعلق بالسياسة والدين والجنس.

ولقد وجهت ثورة 2011 ضربة أساسية للأعراف الاجتماعية البطريركية المحافظة، وهنا يكمن سر الجهود الرامية إلى تصوير يناير 2011 بوصفها مؤامرة من «الآخرين» –الأجانب الدخلاء الخونة لا المصريين الوطنيين حقًا، والرجوع من خلال القمع إلى الوضع الذي يُفترض أنه كان مستقرًا وقائمًا من قبل.

ولنا في قضية الكاتب أحمد ناجي مثالًا على ذلك. فناجي في السجن بسبب «مشاهد جنسية سافرة» في روايته، وفصل منها نشر في أسبوعية أدبية قاهرية. لماذا ترى محكمة مصرية في نشر عمل خيالي في إصدار محدود الانتشار ـ مهما يكن فاحشًا أو مسيئًا ـ خطرًا على الأخلاق العامة في بلد يتجاوز تعداد سكانه 90 مليونًا، وتقدر الأمية فيه بـ 26 %؟

15157014_1852249128343889_4596390642218850267_o

قال ناجي ذات مرة «إنهم [أي النيابة] يمثلون حرسًا لأخلاق المجتمع وفضائله، لا للقوانين الحامية للحريات. وقد ساء هذا الوضع منذ تولي عبد الفتاح السيسي الرئاسة، فقد جاء إلى السلطة من خلال تحالف بين مؤسسات الدولة ـ كالقضاء ـ وهم يشتركون معًا في تولي مسؤولية حراسة مكتسباتهم. فالسيسي يراعي مصالحه، بينما يكرس القضاء نفسه لحراسة الأخلاق وتعليمنا الفضائل».

انتهت محكمة الاستئناف التي حكمت على ناجي (بعد تبرئته في محكمة الدرجة الأولى)إلى أن غاية القانون هي حماية الأخلاق العامة والدين والوطنية والأسرة. وذهب القاضي إلى أن كتابة ناجي تقوض المجتمع ذاته، وتتجاهل قيم المجتمع وحدوده الأخلاقية وتحرض على الفسق. ودعا القاضي البرلمان إلى تغليظ عقوبة السجن على هذه الجرائم«لأن نشر الرذيلة سعيًا إلى تدمير قيم المجتمع وقواعده الأخلاقية مسألة خطيرة تستوجب عقابًا صارمًا». ومضى ينتقد كل من يرون أن القواعد الأخلاقية نسبية متغيرة.وقال إن من العار أن يُترك «مصير أمتنا تحت رحمة من يتعاملون معه باستخفاف واستهتار كمن يلعبون الورق». وانتهى إلى أنه «تسقط الحرية التي جلبت لنا الفساد وضياع الأخلاق والتحلل الأخلاقي بعد الأحداث التي أحاقت بمصرنا الحبيبة» ـ في إشارة إلى ثورة 2011 التي تشيع الإشارة إليها بوصفها «الأحداث» بين من يرونها مؤامرة غايتها الاضطرابات، وليست دعوة إلى الحرية والعدالة الاجتماعية.

لو لم تتخذ الدولة إجراءات صارمة ضد حرية التعبير، لاعتبر ذلك إقرارًا باستحالة عودة الماضي المتخيَّل، وخطوة باتجاه الامتثال لواقع جديد غير محدد بدقة. لذلك فإن حالة مصر العصابية الراهنة تهدف فيها الذاتان الجوهريتان اللتان تروج لهما النخب الدينية والنيوليبرالية للحفاظ على الوضع القائم تحت حماية رحيمة من الدكتاتور الأب. فيكون أي تحد لهذا النظام هو بمثابة تحد لصورة الزعيم الأب.

ومن هنا تكون حرية التعبير أكثر تهديدًا حينما لا تأتي محل القديم بواقع جديد كل الجدة، بل تسائل المقدس، وتفتح إمكانيات جديدة أمام الراشد/ة للاختيار وتحمل مسؤولية اختياره/ها. وهي كذلك رفض للموقف المحافظ المنافق الذي يستعمل من خلاله الحرس المجتمعي شفرة أخلاقية لقمع الاحتجاج العام، في حين تتعرض هذه الشفرة الأخلاقية في الأماكن شبه العامة للانتهاك المنتظم وعلى نحو أكثر تغلغلًا، كما يحدث في الفساد الاقتصادي، والتعذيب في السجون، والحصانة وزوال سيادة القانون.

ما يهدد الأفراد واضح تمامًا في نظر مؤسسات الدولة، مثلما يتبيّن من وثائق وزارة أمن الدولة في ألمانية الشرقية [ستازي] في متحفها ببرلين الشرقية السابقة. وليس غريبًا أن تكون ستازي قد تولت تدريب جهاز أمن الدولة المصري الوليد في أواسط الخمسينيات وظلت تدعمه عشرين عامًا. ولا يخفى على أحد مدى الضعف المتزايد والفشل المتعمق الذي تعاني منه المؤسسات البطريركية (الدينية والسياسية والاجتماعية) في ضمان الهيمنة على الأسرة والمؤسسات التقليدية والمجتمع الكبير. والوسيلة الوحيدة للتغطية على هذا الفشل هي استحضار شفرة اجتماعية وأخلاقية مفترضة.

13690762_10157246753905374_5716287999243797975_n

يرفض أغلب المصريين الاعتراف علنًا بما تتغاضي عنه أغلبيتنا أو تقبل به سرًا، وهو أن نظامنا الأخلاقي أصبح مختلًا تمامًا. فالفجوة المتسعة بين الواقع والرغبات والشفرات المجتمعية لم تترك مجالًا كبيرًا للحلول الوسطى. ونتيجة لذلك، يتجاهل الأثرياء والمتنفذون الأخلاق العامة داخل مجتمعاتهم المغلقة وأنديتهم، بينما يزداد رفض الفقراء لها في الممارسة.

إن المصري المحافظ الغاضب النمطي الآن فريسة للتفكير التآمري المريض في الأجندات والتأثيرات الأجنبية، أو ما يعرف بـ«قوى الشر» في الخطاب الرئاسي. ولكي تخرج مصر من هذا المستنقع، لا بد من إصلاحات سياسية ومؤسسية عميقة، وكذلك لا بد من إنهاء السيطرة المطلقة للنخبة الحاكمة. وسيستغرق ذلك وقتًا، لأن المغالاة في الوطنية والبطريركية هما جزء لا يتجزأ من الدفاع عن مصالح مادية واختلالات سيكولوجية.

لقد أشعلت ثورة 2011 الأمل مجددًا في أن تبدأ الدولة والمجتمع مرحلة تحول، لكننا كنا ساذجين وغافلين عن أعماق وتعقيدات الفساد المادي والمعنوي في المجتمع الأوسع. ولو كانت النخبة والمؤسسات الحاكمة هي مصدر الشر الوحيد، دون المرض الأعمق الكامن في الذات الوطنية المتشظية المضللة في حالة من الإحساس الدائم بأنها ضحية، لكانت المهمة أسهل.

__________

*هذه المقالة مأخوذة من «حرية التعبير في مصر: كيف يهدد الشعر الطويل والقمصان الوردية والروايات وفيديوهات الهواة وفيسبوك النظام العام والأخلاق في مصر» “Freedom of Expression in Egypt: How Long Hair, Pink Shirts, Novels, Amateur Videos and Facebook Threaten Public Order and Morality” وهي مقالة أطول للكاتب نشرت في عدد سبتمبر 2016 من The International Journal of Applied Psychoanalytic Studies الجزء 13 عدد 3.

ترجمة: أحمد شافعي. نشرت أولاً على مدى مصر

%d bloggers like this: